إختر من الأقسام
آخر الأخبار
من أين أدخل في الوطن؟.. فيدرالية قاتلة.. وعقول بالية.. (بقلم المحامي حسن شمس الدين)
من أين أدخل في الوطن؟.. فيدرالية قاتلة.. وعقول بالية.. (بقلم المحامي حسن شمس الدين)
المصدر : المحامي حسن شمس الدين
تاريخ النشر : الجمعة ١٩ تموز ٢٠٢٤

دستور مغيب وطروحات الأفق المسدود. لا أجد توصيفا أكثر دقة للمشهد السياسي في لبنان، لا سيما مع بروز دعوات تقسيم تحت مسمى الفدرالية. فالفدرالية هي نظام سياسي يهدف بالدرجة الأولى الى بناء إطار منظم يقوم على أساس الإتحاد بين كانتونات أو ولايات متفرقة قررت أن تتحد فيما بينها لتنظم شؤونها لغاية أساسية هي الإتحاد لا التقسيم. أما في لبنان، فطرح الفدرالية يأتي معاكسا لهذا تماماً. إذ أنه مبني في فكرته الأساسية على سبب، هو الطائفية، يدعو الى التقسيم لا الإتحاد، فيذهب الى شرعنة أسباب الخلاف بين اللبنانيين وإعطائها طابعاً دستورياً بدل أن يحاول معالجتها وتفكيك أسباب قيامها.

نص دستور الطائف في مقدمته على ضرورة العمل على إلغاء الطائفية السياسية والإنتقال الى الدولة المدنية الكاملة. إلا أنه وللأسف، حالت المصالح الشخصية لزعماء الطوائف على عدم المضي في هذا المسار والإمعان في الإستثمار بالطائفية كلما دعت الحاجة لذلك، بهدف تثبيت سلطتهم وزيادة مكتسباتهم. فبدل الإنتقال الى الدولة المدنية تم تثبيت ركائز حكم كونفدرالي مبطّن بين المناطق اللبنانية بطابع طائفي صرف. فمثلاً يتمتع حزب الله اليوم بكامل السيادة على مناطق نفوذه ذات الأغلبية الشيعية، بالإضافة الى تميزه بسياسات خارجية ومالية وأمنية خاصة به ومنفصلة عن الدولة المركزية. وفي السياق نفسه، يمضي الوزير السابق جبران باسيل في مشروع بناء كانتونه الخاص بأدوات تتناسب مع بيئته المسيحية وذلك عبر إصراره مثلاً على إنشاء معمل كهرباء في سلعاتا وتطوير مرفأ جونية وجبيل. وإلى جانب هذين العنوانين، هناك وعلى امتداد الوطن من يتحفنا بين الحين والآخر بعدد من الإشارات والعناوين المشبعة بمصطلحات "الحساسية الكامنة في النفوس" و "الهواجس المتصلة بأولوية الهويات" و "الإمعان في الخصوصيات القلقة من الحاضر وعلى المصير" وكأنهم يجدون في هذا الكم من الفذلكات والهلوسات والعقد المرضية ملاذاً لتأكيد الذات الآمنة والمطمئة ودائماً بعيداً عن خيار الدولة والوطن والمواطنة.

بالإضافة الى ذلك، استطاع زعماء الطوائف إكتساب الشرعية السياسية عند طوائفهم حيث استطاعوا أن يزرعوا في عقول الناس قناعة بأنهم حماة الطوائف ورعاتها على حساب الدولة، ترسيخاً لمفاهيم تعود الى سنوات الحرب الأهلية. ثم دعّموا شرعيتهم بنظام إقتصادي ريعي مبني على الزبائنية السياسية، فاكتسبوا من خلاله الشرعية الإقتصادية على طوائفهم، الأمر الذي مكّنهم من السيطرة الكاملة على المشهد السياسي والإقتصادي في الدولة بحكم الأمر الواقع.

تماهى الجميع مع النموذج الأسوأ ببعده الطائفي على حساب البعد الوطني، فأطبقت الطائفية على الأحزاب، والأحزاب الطائفية على الناس، بقبضات فولاذية قاسية.

وللأسف، فإن العديد من القوى التي كانت تمتلك بعداً وطنياً في تركيبتها وطروحاتها وشعاراتها وحتى في ممارساتها، وجدت نفسها، عن وعي أو غير وعي و من باب المحافظة على حيثيتها التمثيلية، تصبو حثيثاً وتتدحرج وتنزلق نحو تقليد "النموذج الأسوأ" والتماهي معه بإعجاب شديد تطلعاً وأملاً بالإطباق الأحادي على الطائفة أو إلى التسليم بالثنائية كحد أدنى مقبول، كل ذلك على حساب أولوية الوطن والدولة والمواطنة.

هنا تأتي الفدرالية لتثبيت هذه الشرعية لزعماء الطوائف ولكن بطريقة دستورية. فبدل محاربة الإقطاع السياسي الذي تم تثبيت معالمه بإسم الطائفية عبر محاولة تفكيك منظومات سيطرة زعماء الطوائف على الناس وإقناع الناس بضرورة التمسك بخيار الدولة كونها الملاذ الأول والأخير في الأمن السياسي والإقتصادي والإجتماعي، تقوم دعوة الفدرالية على نسف منطق الدولة بالكامل وتشرع التقسيم وتكرس أسباب الإختلاف بدل العمل على إيجاد حلول مناسبة لها.

كما ويغيب عن بال المسوقين لفكرة النظام الفدرالي في لبنان أن رسم سياسات الدولة الخارجية والاقتصادية والمالية سيكون من صلاحية الحكومة الفدرالية والتي ستضم حكماً كل المكونات الطائفية، باسم التوافقية بين الكانتونات والطوائف. فإذا كنا في ظل حكم النظام المركزي غير قادرين على الإتفاق على سياسة خارجية ومالية موحدة يجمع عليها كل اللبنانيين ويجعلون من مصلحة لبنان المعيار الأساسي لها، فكيف السبيل الى حل هذه المعضلة بعد أن يتم تشريع الإنقسام بين اللبنانيين وتعميقه؟ عدم حل هذه المعضلة يعني بالضرورة أننا في حال ذهابنا الى خيار الفدرالية، سنشهد مطالبات بالإستقلال لبعض الكانتونات بحجج كثيرة أهمها الإختلاف على السياسات الخارجية والإنتماءات الدولية، وليس النقاش الدائر اليوم حول التوجه شرقاً أو غرباً أو حول النموذج الإقتصادي الأفضل والأنسب إلا نموذجاً مصغراً وواضح المعالم عن كيف سيكون المشهد بعد التقسيم.

مشكلة أخرى لا بد من التنبه إليها في خيار الذهاب الى التقسيم والفدرلة ألا وهي مشكلة سلاح الميلشيات ومعضلة الأمن الذاتي. ففي ظل عدم قدرة الدولة اليوم وفي ظل حكم مركزي على بسط سيطرتها على كافة الأراضي اللبنانية وحصر السلاح بيدها وحدها، فمن المستحيل أن تتمكن الحكومة الفدرالية من نزع مظاهر التسلح خارج الدولة. بل إن الإنتماءات الخارجية للطوائف المختلفة والإنقسامات العامودية في توجهاتها في ظل الإنقسام الإقليمي الحاد الذي تعيشه منطقتنا اليوم، سيعزز من فكرة الأمن الذاتي وضرورة التسلح وبناء ترسانات عسكرية بهدف الحماية من عدو مفترض هنا وعدو مُتخيل هناك. كل ذلك سيعزز من خطر التصادم المسلح بين الكنتونات عند أول خلاف فيما بينها، وتاريخ اللبنانيين شاهد على ذلك.

لأجل كل ما تقدم، فإن أي دعوة لنظام سياسي للبنان لا تأخذ بعين الإعتبار هذه المخاطر والثغرات الأساسية ولا تضع خطوات عملية لتفكيكها وإعادة بنائها بما يحفظ السلام بين اللبنانيين، هي دعوة الى التقسيم والتفتيت لا دعوة الى التماسك والإتحاد. ولبنان اليوم بأمس الحاجة للعودة الى الدستور، والتأكيد على تطبيقه بكامل بنوده وبعد ذلك وإن كان لابد من تعديله فبآلياته وعبر مؤسساته فقط يتم التعديل والإنتقال الى الدولة المدنية ودولة القانون والمواطنة.


عودة الى الصفحة الرئيسية