التحذيرات الدولية بين "الاستخفاف المتمادي" و"الجدّ المرتقب"
لا يمكن للمراجع السياسية والأمنية أن تتجاهل حجم موجة التحذيرات الدولية ومضمونها الموجّهة إلى مواطنيها في لبنان. وفي ظلّ عدم القدرة على نفيها، لا يمكن الاستخفاف بها. ذلك انّها قد تؤشر إلى ما هو متوقّع من أحداث تنفي حاجتهم للبقاء في لبنان. وعليه، لا يمكن إجراء أي قراءة متأنية سوى على خلفية خيارين لا ثالث لهما: إما للجم الخيارات العسكرية، وإما لتهيئة مسرح الحرب المقبلة. وعليه، ما هي المؤشرات المؤدية إلى هذه المعادلة؟
صُمّت الآذان نتيجة كثافة التحذيرات التي تلقّاها اللبنانيون كما المقيمون في لبنان، وامتدت على مدى الأشهر التسعة منذ عملية «طوفان الأقصى» والردّ الاسرائيلي عليها بعملية «السيوف الحديد»، ومعهما «حرب الإسناد» من جنوب لبنان. ومهما اختلفت، سواء اكتسبت لغة النصح والإرشاد او التحذير في توقيتها والاسباب الموجبة التي استندت اليها، فقد وصلت حتى الآن، بكل اللغات المعتمدة في العالم. وكل ذلك يجري قياساً على حجم وتوقيت حركة الزوار من ديبلوماسيين وعسكريين، وعلى حجم من قادتهم التطورات العسكرية الدراماتيكية إلى دول المنطقة ولبنان، والمهمات التي كُلّفوا بها، عدا عن تلك التي انطلقت من عواصم ومنابر مختلفة من الأصدقاء والخصوم.
على هذه الخلفيات، ولأسباب مختلفة، زادت نسبة التحذيرات مما هو محتمل حصوله، بعدما سقطت الرهانات على كل مساعي التهدئة التي اعتقد البعض انّها كانت جدّية وحاسمة. فتهاوت مشاريع «الهدن الانسانية» بعد خمس تجارب ميدانية منها واحدة بعد أخرى، من دون التوصل إلى أي حل دائم. وفشل مجلس الأمن الدولي حتى اليوم في ترجمة أي قرار اتُخذ لوقف النار وبرمجة عملية تبادل الأسرى والمعتقلين، سواء ذلك الذي اقترحته دولة الإمارات العربية المتحدة بصفتها ممثلة المجموعة العربية في المجلس، او تلك التي اعدّتها موسكو والصين وبريطانيا والبرتغال، بعدما سقطت بـ»الفيتو» الاميركي، إلى أن بلغ ذروة الفشل في ترجمة القرار الذي اقترحته واشنطن على حاملي القلم، على رغم من أنّه حظي بموافقة 14 عضواً من أصل 15، وتراجعت روسيا عن استخدام حق الفيتو الذي أفرطت الولايات المتحدة في استخدامه من قبل في اللحظة الاخيرة، مكتفية بعدم التصويت، تاركةً للمجلس إثبات قدرته على تنفيذه في ظل الحكومة الاسرائيلية المتعنتة التي تجاهلت كل المبادرات الدولية والاقليمية، ورفضت تنفيذ قرارات محكمتي العدل والجنائية الدولية التي فرضت عليها اتخاذ إجراءات ميدانية ولم تنفّذ اياً منها، بعدما وجّهت اليها تهمة «الإبادة الجماعية» بحق المدنيين من الشعب الفلسطيني، واستهداف المجموعات الدولية العاملة في الحقل الانساني ربطاً بمقتل متطوعين غربيين من فريق «المطبخ الدولي».
وقياساً على ما تقدّم من هذه التجارب المريرة، فقد تهاوت في موازاتها بيانات التحذير على مراحل، وبعدما نجحت واشنطن في لجم الآلة العسكرية الاسرائيلية من التمادي في عملياتها خارج أراضيها الجغرافية، وتحديداً في لبنان في الايام الاولى للحرب، ولجم العمليات التي قام بها المستوطنون في قرى الضفة الغربية وصولًا إلى التدقيق في استخدام اسلحة اميركية محظورة في الأحياء المدنية خلافاً لاتفاقيات تحدّد وجهة استخدامها. وفرضت عقوبات على قادة المستوطنات وبعض المجموعات العسكرية التابعة للجيش والشرطة الاسرائيليتين. وبعدما أبرأت واشنطن ذمّة تل أبيب من مجازر مستشفى المعمداني واكثر من حي سكني ومركز إيواء أممي للاجئين ومدارس «الاونروا» في شمال القطاع ووسطه، حاولت التملّص من عملية «القنصلية الايرانية» في دمشق في الأول من نيسان، وواجهت الردّ الايراني الصاروخي وبالمسيّرات المفخخة، من ضمن حلف دولي كبير في الثالث عشر منه. وفيما لم تتمكن واشنطن من تشكيل الحلف الدولي الذي أعلنت عنه في مواجهة العمليات العسكرية الاولى التي أطلقها الحوثيون اليمنيون في البحرين الاحمر والعربي في مواجهة السفن العابرة في اتجاه الموانئ الاسرائيلية، والتي انعكست على حركة الملاحة في قناة السويس والبحر المتوسط في الاتجاهين، بقيت ماضية في المواجهة وحيدة مدعومة في بعض العمليات من القطع البحرية الفرنسية والبريطانية في «حلف ثلاثي» تحول ثنائياً اميركياً ـ بريطانياً في البعض منها.
وأمام هذه الإستحقاقات التي ميّزت مجريات اطول الحروب الاسرائيلية ـ الفلسطينية والعربية، فقد فرضت بعض المحطات حراكاً دولياً عاجلاً قام به موفدون دوليون أمميون تقدّمهم الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين حاملاً مزيداً من التحذيرات لمنع توسع الحرب في أكثر من حادثة. وتحديداً بعد سقوط ضحايا لبنانيين مدنيين واستشهاد احد العسكريين اللبنانيين من دون ان يؤدي ذلك إلى أي موجة مماثلة دولية، فبقيت الرسائل على شكل نصائح تلقّاها المسؤولون اللبنانيون الكبار تمهيداً لنقلها الى قيادة «حزب الله»، بعدما تحوّلوا سعاة لنقل «البريد السريع» قبل ان يتبلغّوا رسائل السخرية من بعضها، وردّ أخرى بشروط ما لبثت ان تحولت واحدة من بنود «قواعد الاشتباك» وأبرزها الربط النهائي بين ما يجري في الجنوب بما يجري في غزة.
وبناءً على ما تقدّم، بقيت التحذيرات الأخيرة مطروحة على بساط البحث، في أجواء لم توح يوما بأنّ شيئا قد تغيّر. فالتهديدات الإسرائيلية بقيت على وتيرتها السابقة محتفظة بتقلّباتها المحكومة بالخلافات التي أودت بحكومة الحرب وشلّ العمل الحكومي امام تفرّد نتنياهو ببعض القرارات العسكرية ومعه وزير الدفاع يوآف غالانت. فكانت تل ابيب طوال هذه الفترة مربكة، تقدّم الخيارات الديبلوماسية والسياسية صباحاً لتؤكّد على العكس مساء. واختلفت صيغها ما بين ان يكون مطلقها متحدثاً امام تجمّع بعشرات الآلاف من اهالي الاسرى العسكريين، او في الكنيست كما على الحدود الشمالية، مصحوبة بموجات من التشكيك بقدرة الجيش على القيام بأي عملية عسكرية إن قادت الى تدخّل إيراني مباشر شبيه بالتجربة السابقة منتصف نيسان الماضي.
وعند النظر إلى حجم التحذيرات الاجنبية والدعوات إلى مغادرة بعض الرعايا الاجانب لبنان وعدم التوجّه إليه، رأت المراجع الديبلوماسية فيها حتى اللحظة نوعاً من الضغوط النفسية التي لم تؤثر في حركة مطار بيروت الدولي ولا في حركة المغتربين والسياح الأجانب. لكن ذلك قد لا يدوم طويلاً، ويمكن ان تتخذ منحى سلبياً في وقت قريب، يتزامن والخطوات الاسرائيلية المقبلة إن بقي نتنياهو مستمراً في مواجهة المبادرة الاميركية على عتبة الانتخابات الرئاسية، على وقع سيناريو بدأت تتسرّب معالمه إلى بعض المواقع العسكرية والديبلوماسية، وهو يقول بإمكان ان يحمل نتنياهو معه رسالة الحرب على لبنان في زيارته لواشنطن في 24 تموز المقبل إلى واشنطن، ليواجه بايدن عبر منبر الكونغرس مدعوماً من الجمهوريين، في تلك اللحظة الحرجة بمزيد من الأسلحة، وعندها يكون قد فات أوان الأخذ بهذه التحذيرات والاستخفاف بها من عدمه. وكل الخوف يكمن في ان تكون واشنطن قد أنهت استعداداتها لإخلاء الاميركيين من اسرائيل ولبنان في وقت قريب.