عدّاد الموت يرتفع على طرقات لبنان

لا يكاد يمرّ يوم إلّا وتشهد طرقات لبنان فيه حادث سير مروّعًا يسقط فيه قتلى وجرحى. عدّاد الموت يرتفع بوتيرة مطّردة وكأنّ لبنان يعيش حربًا يومية دامية على طرقاته. خيرة شبابه يسقطون نتيجة إهمال مستحكم في حال الطرقات وفوضى مستشرية في تطبيق قانون السير. موت عبثي وإعاقات دائمة وكلفة استشفائية عالية إضافة إلى خسائر مادية مرتفعة هي الثمن الذي يدفعه المواطنون اللبنانيون ولا سيّما فئة الشباب منهم نتيجة حوادث السير القاتلة. فهل صارت طرقاتنا مقبرة لشبابنا على مسمع الدولة ومرآها؟
حوادث السير على ازدياد وتكفي متابعة ما تصدره غرفة التحكّم المروري من إحصاءات يوميّة عن القتلى والجرحى للتأكد أنّ واقع السلامة المرورية في لبنان على شفير الهاوية. وقد ضجّت وسائل الإعلام بوفاة الشاب إيلي مطر في وادي كفرذبيان - فيطرون في حادث سقوط الصهريج، وفي اليوم ذاته، حادث السير المروّع والتصادم المتسلسل بين 5 سيّارات في جعيتا، وقبل أيام، مقتل ثلاثة شبّان على درّاجتين ناريتين إثر اصطدام درّاجتيهما بسيارة منقلبة على أوتوستراد ضبية نتيجة حادث سير. لكنّ الأخبار على فظاعتها، تتحوّل سريعًا إلى متفرّقات يوميّة نتيجة تكرار أخبار الموت على الطرقات... الحكومة تحرّكت وترأس وزير الداخلية والبلديات اجتماعًا للجنة السلامة المرورية بحضور أعضاء اللجنة وممثلين عن عدد من الجمعيات المختصة بالسلامة المرورية لنقاش الأفكار والمقترحات لتحسين واقع السلامة المرورية في المدى القريب ووضع رؤية استراتيجية طويلة الأمد.
لجنة السلامة المرورية: خطط على الورق
"يازا" المشاركة في اللجنة حضرت الاجتماع وفي حديث إلى "نداء الوطن" قال د. زياد عقل مؤسّس ورئيس "يازا" إن اللجنة اجتمعت للمرة الأولى منذ ست سنوات وقامت حتى الآن باجتماعين فقط. أضاف: "لقد أنفقت الحكومة ضمن مشروع تحسين وضع الطرقات 200 مليون دولار إلّا أن هذا المبلغ لم يصرف بشكل صحيح خلال السنوات الماضية وثمّة دراسة أنجزت السنة الماضية حول السلامة المرورية بكلفة مليون دولار لكننا كجمعية يازا لم نطّلع عليها وقد طالبنا بنشر نتائج هذه الدراسة ليطّلع عليها الرأي العام ولا يجوز أن تبقى محاطة بالسرية منذ أكثر من سنة. لقد اقترحنا عدة نقاط خلال هذا الاجتماع ومنها ألّا تذهب الميزانية المطروحة لتزفيت الطرقات للزفت وحده بل أن تكون الأولوية لصيانة الطرق. كما طرحنا مشكلة سرقة الممتلكات العامة التابعة للطرقات مثل أغطية الريغارات والفواصل الحديدية وغيرها ووضعنا آلية لتجنّب هذه المشكلة التي تؤدّي إلى ضرر كبير على سلامة الناس والمرور".
ويتابع عقل قائلًا: "من المبكر الحديث عن مقرّرات فعلية للجنة، فالاجتماع الأول كان اجتماع تعارف ستليه حتمًا اجتماعات يؤمل أن تؤدي إلى نتيجة مع المتابعة المستمرّة من قبل الجميع". نسأل د. عقل عن دور لجنة الأشغال النيابية في تحسين وضع الطرقات فيقول حين كانت اللجنة برئاسة النائب محمد قباني قبل العام 2019 كانت تتمتع بإنتاجية كبيرة تفوق بكثير ما تقوم به اللجنة الحالية أو ما سبقها في السنوات السبع الماضية حيث لوحظ تباطؤ كبير في مراقبة شؤون السلامة المرورية والتشريع العائد إلى هذه المواضيع.
وكان د. عقل قد عرض بعضًا من الأسباب التي تؤدي حاليًا إلى ازدياد أعداد حوادث السير وأعاد جزءًا كبيرًا منها إلى سائقي السيّارات والدرّاجات والمركبات الذين يتلهّون بتطبيقات الهاتف المحمول من خرائط غوغل إلى المحادثات الهاتفية وإرسال النصوص التي تشتت انتباه السائق وتؤدّي إلى حوادث وإصابات فيما المطلوب التركيز الكلّي على الطريق. ويقول عقل إن الفئات العمرية الأكثر عرضة للحوادث هي فئة الشباب من سن 15 إلى 30 لكن للأسف في لبنان لا أرقام دقيقة حول الموضوع. أمّا السبب الأساسي الثاني غير مصادر الإلهاء فيعود إلى غياب المعاينة الميكانيكية منذ العام 2022 وهذا ما أدّى إلى وجود شاحنات وسيارات تسير على الطرقات بحال سيئة، ما أدّى إلى تزايد عدد الحوادث لا سيّما حوادث الشاحنات في مختلف المناطق اللبنانية.
أرقام صادمة
حتى الآن الأمور لا تعد بتحرّكات سريعة وفي انتظار البدء بتفعيل الإجراءات ماذا تقول الأرقام وماذا يقول الخبراء في السلامة المرورية حول أسباب ازدياد حوادث السير على طرقات لبنان في مختلف محافظاته؟
نجيب شوفاني النقيب الأسبق لخبراء السير في لبنان وواضع عدة كتب وكتيّبات للتوعية حول السلامة المرورية، يؤكّد أن سنة 2025 حتى آخر شهر حزيران، شهدت زيادة ملحوظة في عدد حوادث السير وفي أعداد القتلى والجرحى، كما شهدت بداية شهر تموز خمسة أيام جهنمية كان الصليب الأحمر فيها ينقل حوالى 50 جريحًا كلّ يوم. وتقول الأرقام الموثقة التي زوّدنا بها شوفاني وفقًا لأرقام قوى الأمن (بعد عجزنا عن التواصل مع قوى الأمن) إنّ عدد الإصابات نتيجة حوادث السير في الأشهر الستة الأولى من العام 2024 بلغ 5400 بينها 154 قتيلًا أما في الأشهر الستة الأولى من العام 2025 فالعدد ارتفع إلى 6000 إصابة بينها 207 قتلى. وهذه الأرقام على هولها ليست نهائية بل هي ما تسجّله القوى الأمنية من حوادث وما ينقله الصليب الأحمر من جرحى. ولكن هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا العام شهد عودة الحياة الطبيعية إلى لبنان ومجيء أعداد كبيرة من الزوّار فيما في العام الماضي كانت الحرب دائرة والناس قد خفّفوا من تنقلاتهم.
وبحسب إحصائيات الصليب الأحمر، فإنّ الحوادث تتركز في محافظة جبل لبنان وتليها محافظة الشمال. ولكن هذا لا يعني بحسب شوفاني عدم وجود حوادث في محافظات الجنوب والنبطية والبقاع بل لأن نقل الجرحى فيها يعتمد على مؤسسات صحية غير الصليب الأحمر. وقد تمّ نقل 2200 جريح في جبل لبنان خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2024 وتصاعد هذا الرقم إلى 2300 جريح في الفترة نفسها من العام 2025. وتتركز الحوادث المرورية في محافظة جبل لبنان الممتدة من الأولي إلى المدفون والتي تضم الشوف وبعبدا والمتن وكسروان وجبيل لأنها المنطقة الأكثر كثافة بالسيارات ومنطقة عبور لكلّ المحافظات نحو بيروت.
نسأل الخبير عن سبب تزايد الحوادث المؤدّية إلى وقوع قتلى وجرحى، فيجيب أن حجم الحادث يكبر كلّما كان هناك فراغ على الطرقات. ففي الليل مثلًا حين يكون الطريق فارغًا أو على الطرقات الجبلية حين تكون الزحمة قليلة تزداد السرعة، ما يؤدي إلى حوادث مروّعة في ظلّ عدم وجود إنارة على الأوتوسترادات وعدم وجود حدود ظاهرة للطرقات الجبلية، فلا خطوط صفراء عاكسة ليلًا ولا حواجز حديدية وغالبًا ما تكون الرؤية على المنعطفات غير مكشوفة وكلّها عوامل تتسبّب في حصول الحوادث وانقلاب السيارات في الوديان على الطرقات الجبلية. وحتى اليوم، لم تباشر وزارة الأشغال والنقل بوضع خطوط مضيئة تحدّد جوانب الطريق للتخفيف من الحوادث. طرقات لبنان كلّها باتت تحتاج إلى صيانة وإعادة تأهيل حيث إنّ الزفت لم يعد صالحًا لقيادة المركبات، استُهلك وتآكل وصار يسبّب الحوادث إضافة إلى وجود الحفر والتضاريس في الطرقات وغياب صيانة الجسور وفواصلها الحديدية.
السائق ثمّ السائق ثمّ الطريق
لكن حالة الطرقات وحدها ليست هي المسبّب الرئيسي لحوادث السير كما يؤكد النقيب الأسبق شوفاني، بل هم السائقون ورعونتهم في القيادة وغياب الوعي والثقافة المرورية عندهم. ويعطي مثلًا على ذلك حادث ضبية. فلو كان عند الأشخاص الذين انقلبت سيارتهم الوعي الكافي لنقلها إلى يمين الطريق ووضع مثلث التنبيه خلف السيارة كما تقضي المادة 343 من قانون السير، لربما كان سائقا الدرّاجتين قد تنبّها للأمر وما خسرنا سعد وآية ورواد. وهنا تجدر الإشارة إلى أن شرطة السير لا تتحرك إلّا في حال وجود قتلى أو جرحى في الحادث أو حين يتسبّب في زحمة تحتاج إلى حلحلة. من هنا، أهمية التوعية على السلامة المرورية وقانون السير بدءًا بالمدارس لا بل تحويلهما إلى مادة أساسية تساهم أكثر من سواها بالحفاظ على الأرواح والمستقبل والدروس موجودة في المركز التربوي لكنّها لم تطبع ولم توزّع على المدارس والمشروع كان قد بدأ في العام 2010 على أيام الوزير حسن منيمنة لكنه لم يبصر النور.
من جهة أخرى، يقول شوفاني إنه منذ العام 2019 تتوالى الأزمات على لبنان وقد حالت دون حصول فئة كبيرة من الجيل الجديد بين 18 و 25 سنة على دفاتر سوق. هم يقودون بلا دفتر وبلا خبرة ومعرفة بالقوانين سواء أكانوا يقودون سيارات أم درّاجات نارية، ما يؤدي إلى قيادة خاطئة وردّات فعل غير مدروسة بسبب قلة الخبرة وبالتالي إلى ازدياد في الحوادث. هذا إضافة إلى عدم الإلمام بقانون السير وعدم الاهتمام بتطبيقه مع غياب الرادع الفعلي ومع وجود فوضى الدرّاجات النارية المستشرية التي يفترض أن تقود على يمين الطريق فإذا بها تتسلّل أينما كان مسببة الحوادث. حتى المشاة يفترض بهم الالتزام بقانون السير وارتداء السترة الفوسفورية العاكسة للضوء التي تسهل رؤيتهم وكذلك الأمر بالنسبة إلى سائقي الدرّاجات مع وضع الخوذة على رؤوسهم لكن لا أحد يراقب هذه الإجراءات ويتشدّد في تطبيقها.
وفي تلخيص سريع، يعدّد خبير السير نجيب شوفاني أسباب تزايد عدد الحوادث بالتالي: السرعة ثمّ السرعة فالسرعة التي كلّما ازدادت ازداد حجم الحادث في ظلّ غياب أو تباطؤ عمل رادارات السرعة ودوريات السير التي تسطّر محاضر ضبط بحق المخالفين. يليها أو يترافق معها استهلاك الكحول وحاليًا لا تقوم القوى الأمنية بإجراء فحص للكحول على الطرقات بشكل كافٍ في حين تتزايد نسبة الشباب الذين يتعاطون الكحول بكميات كبيرة خلال السهرات، ويأتي بعد ذلك الخليوي وهو أكبر مصدر للإلهاء بكل تطبيقاته.
بعد العوامل البشرية هذه، تأتي العوامل الخارجية ومنها التقاطعات التي ومع غياب الإشارات الضوئية والإنارة تتحوّل إلى مصيدة قاتلة للسيارات وركابها الذين يجهلون بمعظمهم قانون الأولوية في عبور التقاطعات. ومع عدم قدرة المواطن اللبناني على الاهتمام بسيارته وإصلاح أعطالها تزداد نسبة الحوادث وهذا الإهمال ينسحب على الإطارات التي تعتبر العامل الذي يربط المركبة بالطريق وحين يصبح الإطار متآكلًا ومتهالكًا نتيجة الاستهلاك والعوامل الطبيعية يتحوّل إلى أبرز مسبّب للحوادث.
شاحنات الموت المتنقلة
على أكواع عاريا، انقلبت شاحنة وتسبّبت في مقتل شخص. وفي حمانا منذ فترة، اجتاحت شاحنة عددًا من السيارات والمتاجر وقبلها توفي أحد الأشخاص نتيجة دخول سيارته تحت شاحنة متوقفة على جانب الطريق. شاحنات الموت تجوب الطرقات دون رقيب. من يراقب حمولة الشاحنات؟ هل من قبابين على الطرقات وعلى طريق الشام بالأخص أو مراكز لمعاينة حالة الفرامل؟ الشركات المصنعة للشاحنات مثل مرسيدس وفولفو حدّدت حمولة الشاحنات الأكثر اعتمادًا في لبنان بـ 10 أطنان، لكن المشترع اللبناني ووفق المادة 133 من قانون السير زاد الحمولة بنسبة 20 % ومع زيادة الحمولة يقول النقيب الأسبق شوفاني لم يعد ميكانيك الشاحنات يتحمّل خاصة أن معظمها صارت موديلًا قديمًا. ولا يقتصر الأمر على هذا بل تغيب الدفاعات الأمامية والخلفية للشاحنات ويغيب الشريط العاكس الذي يفرضه القانون عن مؤخرة وجوانب الشاحنة ما يجعلها غير مرئية على الطريق ليلًا. ولا ننسى وجود السائقين السوريين الذين يقودون الشاحنات خلافًا للقانون اللبناني الذي يمنح إجازة عمومية للبنانيين فقط وهؤلاء يجهلون كيفية القيادة على الطرقات اللبنانية والجبلية التي تختلف بشكل كبير عن الطرقات السورية المسطحة.