بعد 6 سنوات... ماذا بقي من 17 تشرين؟

لم يكن أحد يتوقّع أن تنفجر الشوارع في بيروت، كما حصل في ذلك المساء من 17 تشرين الأول 2019. ضريبة "الواتساب" فعلت فعلها، على قاعدة "مش رمّانة قلوب مليانة".
عشية 17 تشرين كان لبنان متعَباً إلى حد اليأس، من السياسة والمراوحة القاتلة على كافة الأصعدة، الأمن مع عجز الدولة ورضوخها لحكم الأمر الواقع، من البطالة والهجرة والاقتصاد وبوادر الانهيار التي كانت بدأت منذ مطلع العام، لتتوالى التحذيرات الدولية إلى بيروت من دون أي آذان صاغية. وحتى الطبيعة كان غضبها ثقيل قبل أيام، مع التهام الحرائق أحراج لبنان في مشاهد مبكية وغير مسبوقة.
عشية 17 تشرين "كان البلد ماشي"، ولكن "بطلوع الروح". كان اللبنانيون يعيشون بالدين، كما حال دولتهم. لا كهرباء على وعد الـ24 ساعة، لا بنى تحتية على وعد باريس 3، لا سياحة على وعد الحياد وعدم التدخّل في شؤون الدول المجاورة لا سيما العربية.
عشية 17 تشرين لم تكن حياة اللبنانيين وردية، لكنهم كانوا اعتادوا على "حياة القلّة" ودخلوا"في الـsystem"، لا بل كانوا شركاء في كل فساد البلد، وشعار "كلّن يعني كلّن" الذي رُفع في الساحات كان يصحّ أن يكون "كلّنا يعني كلّنا".
بدت انتفاضة اللبنانيين لوهلة كأنها الحلم الذي طال انتظاره، ها هو فجر الدولة المدنية وعصر المواطنة وانتهاء زمن الطائفية والسلاح والفوضى. هي أكبر من "طلعت ريحتكن" وأوسع من 14 آذار، والبعض اعتبرها أكثر من انتفاضة، وتمنى لو تكون ثورة بتحوّلاتها وانقلابها على الواقع برمّته.
فهل نجحت الثورة فعلاً؟
بعد مرور 6 سنوات، يمكن استخلاص بعض النتائج، وترك الحكم للتاريخ حول مدى نجاح هذه التجربة. وليكن سؤالنا ماذا تغيّر بعد 17 تشرين؟
-المطالب المعيشية بقيت على حالها لا بل تفاقمت على وقع الإنهيار الكبير.
-انهيار الليرة بشكل دراماتيكي، وخسارة اللبنانيين لقدرتهم الشرائية كما ودائعهم في المصارف.
-انهيار القطاع المصرفي بعد الإقفالات المتكررة وخسارة الموقع والدور لصالح "اقتصاد الكاش".
-خسارة لبنان الاحتياطي بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان، وهدر أكثر من 30 مليار دولار على سياسات دعم فاشلة، وجزء كبير منها ذهب إلى خارج الحدود في عمليات التهريب.
-خسارة لبنان ثقة المجتمعين العربي والدولي، لا سيما بعد التخلّف عن سداد "اليوروبوند"، وخضوعه لشروط قاسية من صندوق النقد الدولي مقابل الحصول فقط على 4 مليار دولار.
كانت هذه التداعيات الاقتصادية السلبية المباشرة على وقع الحدث، والتي طبعت حياة اللبنانيين على مدى السنوات اللاحقة وغيّرت يومياتهم بشكل جذري. لتصبح ودائع الناس الضائعة قضية العصر، كما سعر صرف الليرة الذي لم يستعد حجمه الحقيقي لصالح الدولرة الشاملة.
أما في السياسة، فلا بد من التوقّف عند التأثير الكبير الذي خلقته 17 تشرين، لجهة التحوّل في النهج القائم في البلد، وإليكم أبرز الملاحظات:
-التمثيل الوزاري لم يعد سياسياً أو حزبياً، وكل القوى السياسية اتجهت نحو وجوه التكنوقراط، وهذه نتيجة مباشرة للحراك الشعبي.
-الخيارات السياسية استندت أكثر إلى المزاج الشعبي لا التحالفات التقليدية.
-تزايد الاهتمام بدور الشباب ومحاولة إشراكهم في العمل السياسي والحزبي، بعدما كانت الفئة الشبابية ونقمتها على الوضع القائم الخزان الأساسي للحراك.
-عناوين التغيير والإصلاح باتت الحاضر الأبرز في البيانات الوزارية والأوراق الحزبية الداخلية.
-تغطية الفساد لم تعد أقلّه "عالمكشوف".
في المقابل، أفرزت 17 تشرين في الانتخابات النيابية الأولى، بعد 3 سنوات، كتلة نيابية من 13 نائباً. ليبرز معها حجم الهوة الكبيرة بين تجربة الحراك والممارسة في الحكم. ففي العمل النيابي فشل نواب التغيير في خلق كتلة موحّدة بإسم الحراك، وبدوا مشتتين في غالبية الاستحقاقات الوطنية الأساسية.
فشل التجربة النيابية هو نتيجة حتمية للخطأ الكبير الذي وقعت فيه 17 تشرين بأنها لم تفرز قيادة لها، وبقيت مجموعات مرتبطة بمنظمات غير حكومية خارجية وأخرى مناطقية لكل منها اعتباراتها وحيثيتها، وكان سبباً أساسياً في أفول نجمها مع مرور الوقت.
هناك مَن يقول إن سطوة حزب الله منعت الثورة من النجاح وتحقيق أهدافها في البداية، وإنها بقيت رافعة للنظام السياسي القائم. والدليل أن البلد تغيّر فعلاً مع إطلالة العام 2025، ودخل مرحلة جديدة تشبه ما طمحت إليه 17 تشرين وإن تأخّرت 6 سنوات.
فشلت 17 تشرين في خلق إطار سياسي، ولم تحقق وثبة حقيقية من خلال ممثليها في البرلمان، لكن الأكيد أنها فرضت التغيير على الجميع في النهج والأداء والعقلية والمفاهيم... وأن لبنان بعدها ليس كما قبلها