المبادرات الداخلية وصلت إلى الطريق المسدود... هل من حلّ آخر؟
لم يكن مقدّرًا للمبادرات الداخلية في إحداث خرق في الجدار الرئاسي السميك أن تنجح، على رغم أن هدف بعض القائمين بها كان السعي إلى تحريك المياه الرئاسية الراكدة. إلاّ أن ما اصطدمت به هذه المساعي فرملت اندفاعة البعض، فاكتفى بالقول "اللهم إني سعيت وبلّغت"، مع أن سعاة الخير لم يكونوا يتوقّعون اجتراح الأعاجيب في زمن انقطاع الاتصالات بين الأرض والسماء، وفي زمن انعدام التواصل بين ضفتي الوطن، وإن حاول البعض ترميم الجسور بينهما من دون التوصّل إلى ما يحقّق ما هو مبتغىً. وعلى عكس ما كان يؤمل من هذه الحركة المكتوبة بأحرف الفشل ازدادت الهوة الفاصلة بين هاتين الضفتين اتساعًا، إذ بقي قديم المواقف على حاله، إن لم يكن ما استجدّ منه زاد طين الخلافات بلّة.
فالرئيس نبيه بري ومن يدور في فلك "الثنائي الشيعي" باقون على موقفهم. وكذلك تفعل "القوات اللبنانية" ومن يؤيدّ طروحاتها السياسية، التي لها علاقة بآلية الاستحقاق الدستوري. فالفريق الأول لا يزال يرى استحالة إتمام الاستحقاق الرئاسي إن لم يسبقه حوار يدعو إليه رئيس مجلس النواب ويترأسه؛ وهو يرى أنه من دون هذا الحوار يستحيل انتخاب رئيس للجمهورية استنادًا إلى الآليات الدستورية، وذلك بسبب التركيبة الهجينة للمجلس النيابي، إذ أظهرت الجلسات الاثنتا عشرة، التي كان يدعو إليها الرئيس بري، وكان آخرها قبل سنة ونيّف، لم توصل إلى أي نتيجة، ولم تتوصّل الجلسات غير المتتالية إلى تصاعد الدخان الأبيض من مدخنة البرلمان.
أمّا الفريق الثاني فلا يزال يصرّ على التمسّك بما يقوله الدستور في ما خصّ عملية الانتخاب، من دون أن يعارض فكرة التشاور، التي يمكن أن تنشأ بين جلسة وأخرى. وهذا ما يحصل عادة في الحياة الديمقراطية السليمة، حيث يكون النقاش أمرًا طبيعيًا، من دون تسجيل سابقة قد تتحوّل إلى عرف بقوة الأمر الواقع. وهذا ما لم يشر إليه الدستور لا من قريب أو من بعيد، حتى أن المواد التي تتحدث عن العملية الدستورية واضحة ولا تحتاج إلى أي تفسير، وهي لا تحتمل الاجتهاد، وقد جاء في المادة 49 "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".
وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. كما أنه لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعليا عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد".
أمّا المادة 73 فحدّدت المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس وتتضمن التالي:"قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناء على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد، وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكما في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس".
فهاتان المادتين لم تتحدّثا عن أي شرط لاكتمال العملية الانتخابية، ولم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى أي عملية أخرى كشرط الزامي لإتمام العملية الانتخابية.
هذا من حيث النصّ الدستوري. وهذا ما يوافق عليه نظريًا الذين كانت لهم مبادرات، سواء تلك التي قامت بها كتلة "الاعتدال الوطني" أو التحرّك الذي قاده كل من النائبين تيمور جنبلاط وجبران باسيل على رأس موفدين منفصلين من كتلة "لبنان القوي" وكتلة "اللقاء الديمقراطي"، اللذين توصّلا إلى قناعة مشتركة، وإن لم تكن منسّقة، وخلاصتها أنه في مثل هذه الظروف غير الطبيعية، التي يمرّ بها الوطن لا ضير في عقد حوار يدعو إليه الرئيس بري ويترأسه، على ألاّ يشكّل ذلك عرفًا مستقبليًا، وعلى أن تتبعه دعوة أعضاء المجلس إلى جلسات انتخابية مفتوحة وبدورات متتالية، مع ضمان عدم انسحاب أعضاء كتلة "التنمية والتحرير" من أي جلسة، سواء في حال تمّ التوافق في الجلسات الحوارية على قواسم رئاسية مشتركة أو لم يتمّ.
إلاّ أن المكتوي من حليب التجارب السابقة لا يزال ينفخ على لبن الحيطة والحذر. وهكذا سيبقى القديم على قدمه، وسيبقى الكرسي الرئاسي شاغرًا إلى أجل غير مسمّى.