أسعار الغذاء المرتفعة تقود معدلات التضخّم

ما إن شهدت أسعار المحروقات ارتفاعاتها الأخيرة، حتّى ظهرت التساؤلات حول أثر هذا التطوّر على معدلات التضخّم، طالما أنّ كلفة الطاقة تدخل في تسعيرة مختلف السلع في الأسواق. فأكلاف المحروقات تدخل في كل تفصيل على امتداد سلاسل التوريد: من التشغيل والإنتاج إلى الشحن والنقل الداخلي وصولًا إلى عمليّات مراكز بيع التجزئة.
وفي هذه المرحلة بالذات، تكمن الإشكاليّة في ارتفاع معدلات التضخّم المحليّة، حتّى قبل احتساب أثر الارتفاع الأخير في أسعار المحروقات. ويبدو أنّ ارتفاع أسعار الغذاء –إلى جانب الخدمات الصحيّة والتعليم- كان من أبرز العوامل التي قادت ارتفاع معدّل التضخّم العام، حتّى أواخر شهر نيسان الماضي.
معدّل التضخّم الحالي
وفقًا لأرقام إدارة الإحصاء المركزي، قاربت نسبة تضخّم الأسعار السنويّة حدود الـ 13% حتّى أواخر شهر نيسان الماضي، ما يعني أنّ أسعار السوق ارتفعت -كمعدّل وسطي- بهذه النسبة مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق. ومن حيث المبدأ، يمثّل هذا الرقم تقدّمًا ملحوظًا مقارنة بالنسبة التي تم تسجيلها في أواخر شهر آذار 2025، والتي بلغت حدود الـ 14.19%. مع الإشارة إلى أنّ إدارة الإحصاء المركزي تعتمد على قياس أسعار سلّة من السلع والخدمات، وفق أثقال معيّنة لكل فئة من فئات الاستهلاك، لاحتساب الارتفاع أو الانخفاض العام في أسعار السوق.
ومن ناحية أخرى، تمثّل نسبة الارتفاع الحاليّة في الأسعار تقدمًا مهمًا مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. حيث بلغت نسبة الارتفاع في مؤشّر أسعار المستهلك حدود الـ 59.67% في أواخر شهر نيسان من العام الماضي، ونحو 268.78% في أواخر نيسان 2023، و222.88% في أواخر نيسان 2022. وبشكلٍ عام، تُعتبر نسبة التضخّم التي تم تسجيلها هذه السنة، في أواخر شهر نيسان، الأكثر انخفاضًا مقارنة بجميع الفترات المماثلة من الأعوام السابقة، منذ نيسان 2020.
ثمّة ما يفسّر هذا الاستقرار النسبي في الأسعار اليوم، مقارنة بسنوات الأزمة التي امتدّت منذ أواخر العام 2019. فسعر الصرف مستقرّ منذ أواخر الربع الأوّل من العام 2023، وهو ما حدّ من ارتفاعات الأسعار المتأثّرة بارتفاع كلفة الدولار الأميركي في السوق. والدولة اللبنانيّة أنهت منذ العامين السابقين مهمّة تصحيح أسعار الصرف المعتمدة لاستيفاء الضرائب والرسوم، وهو ما حيّد هذا العامل. والجزء الأكبر من أسعار السوق تأقلم مع الأزمة النقديّة خلال السنوات السابقة، بعد الانتقال إلى تثبيت الأسعار بالدولار الأميركي.
ومع ذلك، يبقى من المهم التأكيد أن نسبة ارتفاع الأسعار الحاليّة (أي 13% سنويًا) ما زالت تشكّل رقمًا مرتفعًا، بالنسبة إلى سوق يشهد استقرارًا في أسعار الصرف ومعدلات الرسوم والضرائب، ولا يشهد أي تصحيح يُذكر في الأجور والرواتب. أي بمعنى آخر، لا يوجد ما يبرّر أن تشهد السوق هذا الارتفاع في الأسعار، باستثناء بعض الارتفاع الذي شهدته أكلاف الشحن خلال فترات معيّنة من العام الماضي.
السلع الأكثر غلاءً
الدخول في تفاصيل أسعار أبواب الاستهلاك، يمكن أن يكشف نوعيّة السلع والخدمات التي قادت ارتفاع معدل التضخّم العام. فأسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الكحوليّة، ارتفعت لغاية أواخر شهر نيسان بنسبة 21%، على أساس سنوي، وهو ما يفوق المعدّل العام بسبع نقاط مئويّة. ومن الواضح أنّ هذا المعدّل تأثر بعدّة عوامل، مثل ارتفاع كلفة الشحن البحري، وتأثّر حجم الإنتاج الزراعي المحلّي بالحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان.
وعلى النحو نفسه، ارتفعت أسعار الخدمات الصحيّة بنسبة 21% على أساس سنوي، بينما شهدت كلفة التعليم الارتفاع الأقسى، بنسبة 31%. ويبدو أنّ كلفة الخدمات التعليميّة ما زالت تخضع لزيادات متكرّرة، بفعل تصحيح المدارس والجامعات لقيمة أقساطها، التي تراجعت خلال السنوات الماضية مع تدهور سعر صرف العملة المحليّة. وبفعل تصحيح قيمة عقود الإيجارات أيضًا، سجّلت أسعار الإيجارات الجديدة ارتفاعًا كبيرًا أيضًا، بنسبة سنويّة قاربت الـ 26%، بينما سجّلت كلفة المساكن المملوكة ارتفاعاتٍ موازية بنسبة 26%.
في المقابل، شهدت بعض أبواب الاستهلاك انخفاضات في الأسعار، ومنها مثلاً أسعار الأثاث والأدوات المنزليّة، التي انخفضت بنسبة 8.35%. وبالمثل، شهدت كلفة الاتصالات انخفاضًا بنسبة 2.7%، بينما انخفضت كلفة النقل بنسبة 1.39%. ومن الأكيد أن كلفة النقل بشكلٍ خاص تأثّرت بانخفاض أسعار المحروقات خلال الأشهر الماضية، بفعل انخفاض أسعار النفط العالميّة.
في الخلاصة، ما زالت أسعار السوق تسجّل ارتفاعات عاليّة بالنسبة لاقتصاد استقرّ فيه سعر صرف العملة الصعبة، ولم يعد هناك أسباب نقديّة تفسّر ارتفاع أسعار السلع المستوردة. أمّا ارتفاع كلفة الشحن، فلم يبرّر نسبة الارتفاع الحاليّة في أسعار السلع المستوردة، وخصوصًا بعد ضبط معدلات التضخّم العالميّة. أمّا ارتفاع أسعار المحروقات، فسيساهم أولًا بعودة كلفة النقل والتشغيل إلى الارتفاع، وهو ما سيزيد من وطأة الارتفاع في أسعار جميع أبواب الإنفاق والاستهلاك. وهذا ما سينعكس بدوره على معدّل التضخّم العام خلال الأشهر المقبلة.