الأطفال والهاتف.. حاجة أم إدمان!

لم يعد الهاتف المحمول في أيامنا هذه رفاهية كما كان في الماضي، بل تحوّل إلى ضرورة في حياة الكبار والصغار على حد سواء. وفي ظل هذا الانتشار الواسع، لم يعد من الغريب أن نرى أطفالًا يحملون هواتفهم أو أجهزتهم اللوحية، يتواصلون من خلالها ويلعبون ويقضون معظم أوقاتهم أمام الشاشات. لكن هذه الظاهرة تطرح أسئلة كثيرة حول تأثيرها على شخصية الطفل ونموه النفسي والاجتماعي، وحول كيفية تعامل الأهل مع ضغوط المجتمع من جهة ورغبات أولادهم من جهة أخرى.
عندما يرى الطفل أن أصدقاءه جميعًا يمتلكون هواتف أو أجهزة ذكية وهو لا يملك مثلهم، يتولد لديه شعور بالنقص وربما بالعزلة. في مثل هذه الحالات يبدأ بالضغط على والديه بإلحاح ليحصل على هاتف، معتبرًا أنّ امتلاك الجهاز صار معيارًا للانتماء إلى المجموعة. وإذا لم يعرف الأهل كيف يواجهون هذا الموقف بطريقة تربوية سليمة، فقد يشعر الطفل بالدونية أو بعدم المساواة مع أقرانه.
لهذا من المهم أن يشرح الأهل موقفهم بوضوح، وأن يبيّنوا لطفلهم أنّ لكل عمر احتياجاته، وأنّ الهاتف ليس أولوية بل قد يتحول إلى مصدر أذى إذا استُخدم في وقت مبكر. وضع الحدود التربوية منذ الصغر يساعد الطفل على التمييز بين ما هو أساسي وضروري وما هو كمالي يمكن الاستغناء عنه.
اما الخطر الأكبر فيكمن حين يعتاد الطفل على أن يحصل على كل ما يطلبه بلا نقاش، فالتلبية الدائمة لرغباته قد تربي شخصية اتكالية أو استهلاكية، تجعل الطفل يظن أنّ العالم سيدور وفق رغباته دائمًا. هذا النمط من التربية ينعكس سلبًا على المدى الطويل، إذ يصبح الطفل أقل قدرة على الصبر وأقل تحمّلًا لفكرة الحرمان أو تأجيل الرغبات.
من الناحية الطبية، يحذّر الدكتور إبراهيم سليمان سليمان، طبيب الجهاز العصبي والآلام والمدرب العالمي، من تعريض الأطفال للشاشات قبل سنّ الثالثة، معتبرًا أنّ ذلك يؤثر مباشرة على بنية الدماغ وحالته النفسية. ويؤكد أن الشاشة تستهدف مناطق الدماغ المسؤولة عن المشاعر والإدراك، ما يجعل الطفل هشًا نفسيًا وأكثر عرضة للغضب والعناد وضعف التركيز الدراسي، بل وقد يطور حالة من الإدمان الإلكتروني بسبب إفراز الدماغ المستمر لهرمون الدوبامين.
ويضيف الدكتور سليمان أنّه لا يمكننا عزل الأطفال تمامًا عن السلوك الاجتماعي الخاطئ تجاه الهواتف، لكن يمكننا أن نحدّد أوقاتًا آمنة، مع ضرورة تجنب استخدام الشاشة في النصف ساعة الأولى من النهار والنصف ساعة الأخيرة قبل النوم. ويرى أن البديل عن الهاتف يجب أن يكون نشاطًا نوعيًا يشارك فيه الأهل أبناءهم، بحيث يشغل ثلاث حواس على الأقل ليمنح الطفل المتعة والراحة التي يبحث عنها.
لكن الضغوط ليست فقط نفسية أو تربوية، بل أيضًا اقتصادية. فشراء هاتف للطفل يفرض أعباء مادية إضافية على الأهل، ومعظمهم يشعر بالذنب إذا لم يتمكن من تلبية رغبات أبنائه. غير أن هذا الموقف قد يتحول إلى فرصة لتعليم الطفل معنى القناعة وإدارة الرغبات، وفهم أن الظروف المادية لا تسمح دائمًا بالحصول على كل ما نريد.
سلمى، وهي أم لطفلين، تروي تجربتها فتقول: "كنت مصممة في البداية على عدم شراء أجهزة لوحية لولديّ، لكنني وجدت نفسي في مواجهة مجتمع يفرض عليّ عكس ذلك. جميع من حولي اشتروا لأطفالهن أجهزة لوحية، وأولادي كانوا يشعرون بالنقص لأنهم لا يملكون مثل أقرانهم. حاولت أن أشرح لهم مخاطر الشاشات وأعطيتهم أمثلة عن أطفال تغيّر سلوكهم للأسوأ بسببها، لكنني في النهاية رضخت".
تضيف سلمى: "لا أستطيع أن أعزلهم عن محيطهم أو أن ألغي حياتي الاجتماعية. اليوم أسمح لهم باستخدام الأجهزة لكن ضمن مواعيد محددة، وأراقب المحتوى الذي يشاهدونه، وأشجعهم على الألعاب التعليمية أو التفاعلية مثل الرسم والحساب."
هذه الشهادة تعكس بصدق ما تعانيه الكثير من الأمهات والآباء بين رغبتهم في حماية أطفالهم وبين ضغوط المجتمع الذي يفرض أن تكون الشاشة جزءًا من حياة كل طفل. وهنا يبرز دور القدوة، فالأطفال لن يقتنعوا بالابتعاد عن الشاشات إذا رأوا والديهم غارقين فيها طوال الوقت. وكما يقول الدكتور إبراهيم: "أسوأ نموذج للأهل هو الذي يقدم لأولاده كل ما هو مادي، لكنه يغفل عن أهمية الوقت النوعي معهم. الطفل بحاجة إلى توازن بين الممنوع والمسموح، وأن يرى في أهله قدوة سلوكية حقيقية."
في النهاية، يمكن القول إن الهاتف ليس عدوًا مطلقًا ولا صديقًا دائمًا. هو أداة يمكن أن تكون نافعة أو مضرة بحسب طريقة استخدامها. الأطفال اليوم يعيشون في عالم رقمي لا يمكن فصله عن حياتهم، لكن مسؤولية الأهل هي أن يوجّهوا استخدامه وأن يضعوا له حدودًا واضحة. التربية السليمة تقوم على الحب والحزم معًا، وعلى قضاء وقت نوعي مع الأطفال يمنحهم السعادة الحقيقية بعيدًا عن الشاشة، وقد تكون خطوة بسيطة اليوم قادرة على تغيير مستقبل وسلوك طفلنا عندما يكبر، فالمستقبل لا يُبنى بجهاز ذكي بين يدي الطفل، بل بالقيم والمهارات التي نزرعها فيه منذ الصغر