الدائرة 16 .. هل تفتح باب معركة رئاسة البرلمان؟

تتقدم الاستعدادات للاستحقاق النيابي المقبل في لبنان وسط صراعٍ سياسي يتجاوز البعد الداخلي ليأخذ أبعاداً إقليمية وخارجية واضحة. ففي المشهد المحلي، تسعى قوى وازنة إلى إعادة صياغة موازين القوى عبر خوض معركة التمثيل الميثاقي، فيما تتجه الأنظار إلى دور الاغتراب اللبناني وقدرته على ترجيح كفّة هذا الطرف أو ذاك.
وعلى خط مواز، حدد الثاني من تشرين الأول الجاري موعداً لانطلاق تسجيل اللبنانيين غير المقيمين للمشاركة في الانتخابات المقبلة، على أن تستمر المهلة حتى العشرين من تشرين الثاني 2025. وهو استحقاق دوري نصّ عليه قانون الانتخاب رقم 44/2017، الذي يفرض إقفال باب التسجيل قبل عام من موعد الانتخابات. هنا، تبرز عقدة سياسية إضافية: هل سيصوّت كما جرى عامي 2018 و2022، أم ستفعّل المقاعد الستة المخصّصة لهم في الدائرة السادسة عشرة، والموزّعة مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين (ماروني، أرثوذكسي، كاثوليكي، سنّي، شيعي، درزي) على القارات الست؟
في انتخابات 2022، رجحت أصوات المغتربين كفّة المعارضة و"حزب القوات اللبنانية" في أكثر من دائرة، ما يفسّر تمسك هذه القوى بآلية الاقتراع في الدوائر الداخلية. في المقابل، يرى "حزب الله" و"حركة أمل" أن حصر التصويت بستة مقاعد فقط هو السبيل للحفاظ على الواقع الراهن وعدم خربطة الخريطة النيابية التي يسعى البعض إلى تغييرها، لا سيما أن لدى "الثنائي الشيعي" إشكالية مع اقتراع الاغتراب لافتقاده مبدأ تكافؤ الفرص وضماناته.
ويبدو "حزب القوات اللبنانية " مقتنعًا بإمكانية خرق ما يعتبره الاحتكار الشيعي للتمثيل في دائرتي بعبدا وجبيل، عبر ترشيح شخصيات شيعية على لوائحه والسعي لإيصالها إلى البرلمان. وفي المقابل، تبرز المقاربة السعودية الرامية إلى تقليص نفوذ "حزب الله"داخل البيئة السنّية تحديدا في مناطق البقاع وبعلبك، مع دعم مرشحين شيعة معارضين للحزب في دوائر مثل بيروت الثانية والبقاع الثالثة وقرى شرق صيدا والزهراني. والهدف المعلن من هذه المقاربة، كما ينقل نواب في المعارضة في مجالسهم، هو سحب الغطاء الميثاقي من يد "الثنائي الشيعي" عبر صناديق الاقتراع، بما قد يفتح الباب أمام إعادة النظر في موقع رئاسة المجلس النيابي ومفاعيله.
هذا التوازي بين"القوات" وقوى المعارضة والرياض يتجاوز الحسابات الانتخابية المباشرة، ليصبّ في اتجاه سياسي واحد عنوانه كسر الحصرية التمثيلية ل"الثنائي الشيعي" داخل طائفته، بما يسقط الحجة الميثاقية التي استخدمت طوال العقود الماضية لتثبيت رئاسة المجلس في يد حركة أمل والرئيس
نبيه بري. فهناك، كما يقول مصدر سياسي مطلع مشروع غير معلن يهدف إلى انتزاع رئاسة المجلس عبر صناديق الاقتراع، ما يعني حرمان "الثنائي" من ورقة قوته الأبرز في النظام اللبناني، وبالتالي الحدّ من قدرته على فرض الفيتو داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية.
في المقابل، يعي "حزب الله" و"حركة أمل" ما يحضر لهما جيداً ولذلك يبديان تمسكاً بإجراء الانتخابات وفق القانون الحالي الذي ينص على الدائرة 16، مع تأكيدهما العجز عن خوض حملات انتخابية في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج إذا جرى تعديل القانون لجهة توزيع أصوات المغتربين على كامل الـ128 مقعدا. بالنسبة إلى "الثنائي"، تشكل الدائرة 16 عنصراً أساسيا في معركة رئاسة المجلس. أما "التيار الوطني الحر"، فيتمسك بنص القانون لجهة الإبقاء على الصوت التفضيلي الواحد، وتكريس حق المغتربين في انتخاب ممثلين عنهم مباشرة في الدائرة 16، وهو موقف يلتقي فيه مع "الثنائي".
وسط هذا التجاذب، تبرز خشية جدية من أن يؤدي الانقسام حول آلية اقتراع المغتربين إلى تعطيل المهل الدستورية برمتها. والكلام في الدوائر الدبلوماسية يشير إلى أنّ سيناريو "تطيير الانتخابات" يبقى مطروحا إذا لم يحسم النقاش قريبا، ما قد يفتح الباب أمام تمديد ولاية المجلس الحالي لعام أو عامين. والأهم أن بعض المراجع الرسمية اللبنانية، عندما طرحت عليها فكرة التمديد الجزئي، أجابت بوضوح: إما تمديد كامل لأربع سنوات، وإمّا انتخابات في موعدها
هكذا، يدخل لبنان مرحلة دقيقة حيث تتقاطع الطموحات الداخلية مع الأجندات الخارجية، ويتحوّل المغتربون إلى رافعة سياسية أساسية في معركة السيطرة على التمثيل. وبين السعي السعودي بالتعاون مع بعض المكونات السياسية المحلية لإضعاف "حزب الله"، وتمسّك "الثنائي الشيعي" و"التيار الوطني الحر" بخياراتهم القانونية، تبقى الكلمة الفصل للمهل الدستورية التي قد تفرض إما انتخابات حاسمة في ربيع 2026، أو تمديدا يعمّق الأزمة ويكرس الجمود. والسؤال: هل ينجح الداخل والخارج في كسر القاعدة التاريخية لرئاسة المجلس، أم أنّ تثبيت الدائرة 16 سيعيد إنتاج المعادلة نفسها ويطيل عمرها؟