هل تدفع إسرائيل لبنان إلى صدام داخلي تمهيدًا لقرار توسيع الحرب؟
في لحظة تتسارع فيها مؤشّرات التصعيد على الحدود الجنوبية، مع الحديث الإسرائيلي المتكرّر عن "حتمية" توسيع العملية العسكرية في لبنان، تتكثّف الضغوط الدبلوماسية على الدولة اللبنانية من أجل الإسراع في تنفيذ مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة"، ضغوط يبدو أنّ الولايات المتحدة تتصدّرها، بما يهيئ البيئة السياسية والإعلامية التي يمكن لإسرائيل أن تتحرّك ضمنها بأقلّ قدر من الاعتراض الدولي، إذا لم ينجح في منع الحرب على المستوى العملي.
في هذه اللحظة بالتحديد، بدا الإعلان الصادر عن الجيش الإسرائيلي حول مسؤولية "حزب الله" عن اغتيال أربعة لبنانيين على خلفية انفجار مرفأ بيروت، خارج السياق ومثيرًا للجدل إلى حدّ بعيد. فعلى الرغم من أنّ هذا الاتهام المستجدّ لـ"حزب الله" صدر عن إسرائيل التي لا تزال شريحة واسعة من اللبنانيين تلمّح إلى تورّطها في الانفجار، إلا أنّه لا يُعَدّ حدثًا معزولاً عن التحوّلات التي تشهدها المنطقة منذ الحرب على غزة، ومن بعدها لبنان.
بهذا المعنى، يمكن قراءة الاتهام الإسرائيلي لـ"حزب الله" بالتورط في عدد من الاغتيالات، بوصفه حلقة من حلقات حرب أوسع تسعى تل أبيب إلى خوضها على جبهة الداخل، بالتوازي مع الميدان، ولا سيما أنّ الرواية الإسرائيلية تنطوي في مكانٍ ما على محاولة واضحة لزعزعة الداخل اللبناني عبر ملفات حسّاسة تستنهض الانقسام العمودي في المجتمع، الذي لطالما شكّل "مصلحة" لأعداء لبنان، وعلى رأسهم إسرائيل التي تحاول تصوير نفسها باحثة عن الحقيقة.
باختصار، ثمّة من يريد أن يجعل إسرائيل طرفًا في النزاع على رواية "الحقيقة" داخل لبنان، وربما أبعد من ذلك، طرفًا في إعادة تشكيل الاصطفافات الشعبيّة والسياسية، خصوصًا أنّ ملف المرفأ ظلّ منذ 2020 مساحة الانقسام الأعمق بين اللبنانيين حول مسؤولية الدولة والحزب والقضاء، فهل يمكن القول إنّ مثل هذه المقاربة واقعية ودقيقة، وهل تمهّد إسرائيل من خلالها لتوسيع الحرب، أم ربما لتقليص مناخات التوتّر؟
في المبدأ، ليس سرًا أنّ إسرائيل تحضّر الأرضية لتصعيد عمليتها العسكرية في لبنان، منذ فترة ليست بقليلة، بدليل التسريبات الإعلامية المتكرّرة عن "حتمية" الحرب، وهي تسريبات تندرج بلا شكّ في سياق "الحرب النفسية" التي تخوض المواجهة بها، ولكن أيضًا في محاولة لطمأنة سكان المستوطنات الشمالية بالدرجة الأولى إلى أنّ صفحة هذه الحرب لن تُطوى قبل التوصّل إلى حلّ جذري ينهي التهديد الذي كان يمثله "حزب الله" عند المنطقة الحدودية.
وإذا كان صحيحًا أنّ إسرائيل لم تخرج من "زمن الحرب" حتى تلوّح بالعودة إليه، باعتبار أنّها لم تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته قبل عام، ولا تزال مستمرّة بانتهاكه من طرف واحد حتى اليوم، فإنّ هناك من يضع تلويحها اليوم بضربة واسعة ضد "حزب الله" في سياق استكمال "تهيئة الظروف" قبل التنفيذ، كما فعلت بمجزرة البيجر التي ضمنت من خلالها التفوّق الاستخباراتي والأمني، بعد اختراق الحزب من رأس الهرم فيه حتى القاعدة.
في هذا السياق، تصبح رواية "الوحدة 121" وما نُسب إليها من اغتيالات جزءًا من معركة تحضير طويلة المدى،فإسرائيل تعلم أنّ ملف انفجار مرفأ بيروت يمثّل جرحًا لبنانيًا جماعيًا لا يزال مفتوحًا، بفعل الجمود الذي يشهده منذ سنوات. ولأنّ الاتهامات الإسرائيلية جاءت في لحظة يتعاظم فيها الضغط على الحزب أمنيًا وسياسيًا، فإنّ استهدافه عبر هذا الجرح قد يشكّل بالنسبة لتل أبيب خطوة أولى لضرب ما تعتبره "الحاضنة الوطنية" لا "الحاضنة الشيعية" فقط.
ويزداد هذا المسار وضوحًا إذا ما رُبط بالعامل الداخلي في لبنان، بدءًا من الانقسام حول القاضي طارق البيطار،مرورًا بالانقسام حول فرضية الإهمال أو القصف أو التورّط، وصولاً إلى الانقسام حول دور الدولة و"حزب الله" والمنظومة. وهنا تراهن إسرائيل على أنّ تحريك الداخل ضدّ الحزب قد يحقّق ما لا تحقّقه الضربات العسكرية، بدليل ما حصل بعد حرب العام الماضي، حين ازداد الاحتضان الشعبي للحزب رغم الخسارة المحققة عسكريًا.
في خلفية المشهد أيضًا، تظهر الولايات المتحدة العائدة إلى المنطقة من خلال موفدتها مورغان أورتاغوس، التي تعيد التأكيد على أنّ حجر الزاوية في معالجة كل الملفات يبقى نزع سلاح "حزب الله" بلا مماطلة أو تأخير، وقد جاء ذلك على وقع رسائل التحذير التي وجّهتها واشنطن إلى بيروت عبر أكثر من وسيط، ومفادها أنّ إسرائيل باتت جاهزة للضرب، في حال لم تلبَّ شروطها، خصوصًا على مستوى سحب السلاح.
من هذا المنظور، لا يبدو الركن الأميركي في المعادلة منفصلًا عن الاتهامات الإسرائيلية الأخيرة، إذ إنّ واشنطن، التي تدفع باتجاه تقدّم المراحل في قطاع غزة، وكذلك في سوريا، لا تتردّد في التعبير عن "خيبة أملها" من الموقف الرسمي اللبناني، ولا سيما "العهد الجديد" الذي لم يترجم الشعارات والوعود التي أطلقها إلى خطوات جدّية وملموسة، بل فضّل "مراعاة" الحزب، وتبديد هواجسه، في حين يعتبر الأميركيون أنّه "أصل الداء والمشكلة".
ليس المقصود هنا أنّ الولايات المتحدة "تدفع" إسرائيل مباشرة نحو الحرب، بل أنّها تعيد ترتيب الخطاب الدولي بما يتيح لإسرائيل هامشًا أوسع للتحرّك. بكلام آخر، ثمّة من يرى أنّ الضغوط الأميركية ليست بديلًا عن العمل العسكري، بل جزء من ظروفه الموضوعية. وحين تتقاطع هذه الضغوط مع محاولة تل أبيب توظيف ملف المرفأ لضرب شرعية الحزب داخل بيئته اللبنانية الأوسع، يصبح واضحًا أنّ هناك معركة تُخاض على الرواية قبل أن تُخاض على الأرض.
في النتيجة، يمكن القول إنّ ما يتكشّف اليوم في لبنان هو فصل جديد من المواجهة مع إسرائيل، لكنه ليس فصلًا عسكريًا صِرفًا كما اعتادت البلاد على مدى العقود الماضية. فالحرب التي تتهيّأ لها إسرائيل تبدو حربًا على السرديات قبل أي شيء آخر، وعلى المعاني، وعلى الوعي الجمعي للبنانيين.
ولعلّ التركيز على ملف المرفأ بهذا الشكل يكشف أنّ المعركة باتت مزدوجة: إضعاف بيئة الخصم داخليًا، وتحقيق مكاسب ميدانية خارجيًا. فهل ينجح لبنان في حماية وحدته الداخلية من حرب السرديات، ويمنع تحويل انقساماته الداخلية إلى جبهة موازية تُخاض فوقها أكبر معاركه؟.