توزيع أدوار بين واشنطن وباريس... هل ينجح المجتمع الدولي في "منع" الحرب على لبنان؟
صحيح أنّ زيارة لبنان أصبحت "ثابتة" على أجندة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان، الذي سبق أن كلّفه الرئيس إيمانويل ماكرون بإيلاء الملف اللبناني اهتمامه، إلا أنّ الصحيح أنّ كل زيارة للرجل لها ظروفها الخاصة، التي تفرض عليها إيقاعًا لا يعكس بالضرورة ذلك الذي كان مخطّطًا لها. ويسري ذلك على زيارة لودريان الأخيرة إلى بيروت، التي وصلها في لحظة سياسية شديدة الدقة، وعلى وقع تهديدات إسرائيلية متزايدة بتوسيع العملية العسكرية.
وفي وقتٍ تشهد الساحة اللبنانية تقاطعًا لثلاثة مسارات مفتوحة في آن واحد، أولها مسار أمني هشّ تحكمه تهدئة غير مستقرة جنوبًا، وثانيها مسار تفاوضي لم تتّضح حدوده النهائية بعد، جنبًا إلى جنب مع المسار السياسي الداخلي الذي لا يزال مثقلاً بالانقسامات، جاءت زيارة لودريان إلى بيروت، ليس بوصفها مبادرة بحدّ ذاتها، ولكن كحلقة ضمن مشهد دولي أوسع لإدارة الأزمة اللبنانية ومنع انزلاقها مجددًا إلى حرب شاملة.
بهذا المعنى، فإنّ زيارة لودريان، بكل ما حملته من لقاءات ورسائل، لا تعبّر عمليًا عن "عودة فرنسية بعد غياب" بالمعنى المباشر، بقدر ما تعبّر عن انتقال من دور المتابعة الهادئة في الخلفية إلى دور الحضور السياسي العلني، ضمن توزيع أدوار دولي واضح المعالم، حيث تتصدّر الولايات المتحدة واجهة الملف الأمني والتفاوضي، فيما تبقى فرنسا في واجهة الشق السياسي-الاقتصادي لما بعد التهدئة.
وبين هذين المسارين، يتحرك المجتمع الدولي ككل لمحاولة تثبيت حدّ أدنى من الاستقرار، وبالتالي تجنيب البلاد والمنطقة حربًا يوحي الإسرائيليون منذ أٍسابيع بـ"حتميّتها"، بل يحضّرون "الأرضية المناسبة" لذلك، فكيف تُقرَأ الزيارة في هذا السياق العام والشامل؟ وهل يتعارض الدوران الفرنسي والأميركي بهذا المعنى، أم يتكاملان عمليًا بين الأمن والسياسة والاقتصاد؟ وماذا عن موقف الداخل الذي يبقى دوره "مفصليًا" في تزكية أيّ خيار؟.
منذ اللحظة الأولى لاحتدام الجبهة الجنوبية، مرورًا باتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته واشنطن ولم تلتزم به تل أبيب، بدا واضحًا أنّ الولايات المتحدة تولّت عمليًا الإمساك بالمفتاح الأمني، استكمالاً لدور الوساطة الذي تلعبه منذ سنوات، وبدأ في عهد الرئيس السابق جو بايدن. هكذا، تقدّمت واشنطن إلى الأمام بين دول ما عُرِفت باللجنة الخماسية، التي ضمّت إلى جانبها مصر والسعودية وقطر، إضافة إلى فرنسا التي سجّلت تراجعًا في القدرة على التأثير.
شيئًا فشيئًا، أخذ الدور الأميركي يتصاعد أكثر فأكثر، إذ أصبحت واشنطن هي التي تدير التهدئة بين لبنان وإسرائيل، رغم أنها برأي شريحة واسعة من اللبنانيين ليست "وسيطًا نزيهًا"، بالنظر إلى انحيازها المطلق لإسرائيل، والذي دفع من تولّوا الوساطة أنفسهم لإعلان وقوفهم إلى جانب تل أبيب في حال قرّرت العودة إلى لبنان، بل إن أحدًا لا ينسى المرور الأول لمورغان أورتاغوس، حين شكرت من قصر بعبدا إسرائيل على حربها ضدّ لبنان.
على الرغم من كلّ ذلك، بقيت الولايات المتحدة تتصدّر الصورة نتيجة معادلة دولية صارمة، مفادها أنّ إسرائيل لا تتلقى إشارات الحرب والسلم إلا من واشنطن، وبالتالي فإنّ أي مسعى لاحتواء التصعيد من خارج هذه القناة يبقى بلا فعالية حقيقية. في هذا الإطار، ثمّة من يفهم التصعيد الإسرائيلي المتكرّر في الأسابيع الأخيرة بوصفه جزءًا من سياسة الضغط التفاوضي أكثر مما هو اندفاعة مفتوحة نحو حرب شاملة.
ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ التلويح بالحرب، وتوسيع بنك الأهداف، ورفع سقف التهديدات، كلها أدوات ضغط لتحسين شروط أي تسوية مقبلة، لا إعلان نية فورية لكسر التهدئة بشكل كامل، ولا سيما أنّ واشنطن كانت تتحرك بالتوازي لضبط الإيقاع: لا تشجّع الحرب الشاملة، لكنها لا تمارس ضغوطًا كافية لوقف الخروقات اليومية، في معادلة عنوانها الأساسي "منع الانفجار الكبير من دون فرض تسوية شاملة قبل نضوج شروطها".
ضمن هذه المعادلة، تُرك لبنان في موقع المتلقي: يراهن على أن المظلّة الأميركية، ولو كانت متحيّزة تقليديًا لإسرائيل، تبقى القناة الوحيدة القادرة على كبح الحرب الشاملة، في ظل عجز أي طرف دولي آخر عن لعب هذا الدور منفردًا. ومن هنا جاء الرهان اللبناني الرسمي على "المؤازرة الدولية"، لا باعتبارها خيارًا سياسيًا، بل باعتبارها ضرورة وجودية لمنع العودة إلى السيناريو الأسوأ.
في مقابل الواجهة الأميركية، اختارت فرنسا منذ البداية موقعًا مختلفًا، فبعدما كانت في الصدارة في مرحلة الفراغ الرئاسي، وما عرف بالمبادرة الفرنسية، انكفأت إلى الخلف، ولم تدخل في سباق على إدارة الاشتباك العسكري، مفضّلة الاستثمار الهادئ في الشق السياسي-المؤسساتي لما بعد التهدئة. ويرى العارفون أنّ هذا الخيار لم يكن نتيجة عجز بقدر ما كان تعبيرًا عن إدراك فرنسي لطبيعة أدواته وحدوده.
من هنا، جاءت زيارة لودريان الأخيرة لتعيد تثبيت هذا الدور علنًا، خصوصًا من خلال التركيز على الجيش اللبناني، وعلى "الميكانيزم" المرتبط بتطبيق القرار 1701، وعلى ضرورة تثبيت الاستقرار بوصفه شرطًا لازمًا لأي انفتاح اقتصادي أو دعم مالي أو إعادة إعمار. بمعنى آخر، جاء لودريان ليقول بوضوح إنّ فرنسا لا تفاوض على الحرب، ولا تدخل في تفاصيل الاشتباك، لكنها تحضّر المسرح لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار الفعلي.
ويشدّد المتابعون على أنّ هذا التموضع الفرنسي لا يصطدم مباشرة بالدور الأميركي، بل يتحرك تحته ومن خلاله. فباريس لا تنازع واشنطن على قيادة الملف الأمني، لكنها تسعى إلى تثبيت نفسها كضامن أساسي لمسار إعادة تركيب الدولة ومؤسساتها، متى انتهت مرحلة الاشتباك المفتوح. بهذا المعنى، يمكن القول إن فرنسا لا تعود إلى لبنان "ضد" الولايات المتحدة، بل "بالتنسيق الضمني معها"، في إطار توزيع أدوار غير مكتوب لكنه واضح في الممارسة.
وإلى جانب واشنطن وباريس، يتحرك طيف أوسع من الفاعلين الدوليين والإقليميين، يأتي في صدارتهم المصريون والقطريون، الذين يسعون لاستنساخ تجربة اتفاق غزة في جنوب لبنان وذلك بهدف منع تحوّل لبنان إلى ساحة حرب مفتوحة جديدة في الإقليم. لكنّ هذا الحراك أيضًا لا يقوم على مشروع تسوية شاملة، أقلّه حتى اللحظة، بقدر ما يقوم على إدارة الأزمة، الأمر الذي لا يتوقع منها أن يؤدي إلى حلّها جذريًا.
انطلاقًا من كلّ ما سيق، يمكن اختصار ما يجري اليوم بمعادلة دقيقة: واشنطن تدير النار إن صحّ التعبير، فيما تدير فرنسا مرحلة "ما بعد النار"، ويتولى سائر أصدقاء لبنان في المجتمع الدولي مهمّة "الدعم". وإذا كان هذا التوزيع يمنح لبنان فرصة ثمينة لتجنّب الحرب الشاملة، فإنّ الواضح أنه لا يمنحه في المقابل ضمانة حقيقية لبناء دولة مستقرة وقادرة. فالدور الخارجي، مهما تضخّم، يبقى في نهاية المطاف إطارًا مساعدًا لا بديلًا عن القرار الداخلي.
بمعنى آخر، فإنّ هذا الترتيب، مهما بدا متماسكًا في الظاهر، يبقى هشًّا في الجوهر إذا استمرّ الداخل اللبناني في الدوران داخل الحلقة نفسها من الانقسام والعجز وتعطيل المؤسسات. فلا واشنطن قادرة على فرض تسوية دائمة من دون قبول داخلي، ولا باريس قادرة على إعادة إعمار دولة لا تريد أن تُصلح نفسها، ولا المجتمع الدولي مستعد لتحمّل كلفة بلد يرفض أن يحسم خياراته بنفسه.
ومن هنا، يبقى السؤال الحقيقي الذي لم تُجب عنه بعد كل هذه المبادرات:
هل يلتقط اللبنانيون هذه اللحظة الدولية لمنع الحرب، ليحوّلوها إلى بداية مسار استقرار فعلي؟.