بين يانوح والحراك المصري: مفاوضات على حافة الحرب أم إدارة مؤقّتة للتصعيد؟
فيما يستمرّ التصعيد الإسرائيلي في جنوب لبنان، ليس على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار فحسب، وقد مرّ أكثر من عام على إبرامه من دون ترجمة، ولكن أيضًا بعد فتح باب المفاوضات على مصراعيه، مع إصرار إسرائيل ليس على مبدأ "التفاوض تحت النار"، بل "النار فوق التفاوض" المُعتَمد إسرائيليًا، والذي يؤشّر إلى "أولويات" تل أبيب، برزت حادثة يانوح التي تكاد تكون غير مسبوقة، من حيث تجميد غارة بعد إصدار "إنذار عاجل" بها.
بهذا المعنى، لم تكن حادثة يانوح حدثًا أمنيًا معزولًا، ولا مجرّد تفصيل ميداني جرى احتواؤه في اللحظة الأخيرة، بل شكّلت مدخلًا كاشفًا لطبيعة المرحلة التي يمرّ بها لبنان اليوم، وهي مرحلة لا يمكن توصيفها بهدنة مستقرة، ولا بحرب مفتوحة، بل بحالة وسطية تُدار فيها المواجهة سياسيًا وعسكريًا في آن واحد، على إيقاع تفاوض لا يلغي الاستعداد للمواجهة، وضبط ميداني لا يرقى إلى تثبيت قواعد اشتباك جديدة.
ففي يانوح، نجح الجيش اللبناني في تأجيل ضربة إسرائيلية كانت ممهورة بإنذار واضح، مستفيدًا من هامش سياسي وأمني ضيّق، ومن تقاطع مؤقّت في الحسابات. لكنّ هذا "النجاح الموضعي" لا يمكن أن يُقرَأ كتحوّل استراتيجي، خصوصًا أنّ تل أبيب هي التي أرادت هذه المرّة ربما التظاهر بـ"مرونة" لا تبديها في العادة، بل كدليل إضافي على أنّ ما يجري جنوبًا هو إدارة دقيقة للتصعيد، لا مسار تهدئة حقيقي.
لكن هذه الحادثة التي لم تترجم تجميدًا للتصعيد، جاءت في لحظة شديدة الهشاشة، تتقاطع فيها مسارات تفاوض سياسية مع استعدادات عسكرية إسرائيلية لا تتوقّف، وهو ما يفسّر تكثيف الحراك الدبلوماسي، وعودة دور القاهرةإلى الواجهة، مع ترقب زيارة لرئيس الوزراء المصري هذا الأسبوع إلى بيروت، فما الذي يحضّر فعلاً من سيناريوهات للمرحلة المقبلة، وأين يقف لبنان عمليًا منها؟.
في المبدأ، يمكن القول إنّ المعادلة التي تحكم السلوك الإسرائيلي في هذه المرحلة باتت أكثر وضوحًا، وهي قائمة على ثنائيتي "تفاوض بلا التزام"، و"استعداد عسكري بلا إعلان حرب"، وكلاهما يستند إلى فكرة "النار فوق التفاوض"، بدل "التفاوض تحت النار"، في رفض ضمني لمبدأ "هدنة المفاوضات" الذي يرفعه البعض، ولكن قبل ذلك، في إيحاء واضح بأنّ النار هي التي تأتي في المقام الأول وفق المنطق الإسرائيلي.
بمعنى آخر، فإنّ تل أبيب تفصل بين المسار السياسي الذي تُدار عبره الاتصالات والوساطات، سواء من خلال لجنة "الميكانيزم" وغيرها، وبين المسار الميداني الذي تُبقيه مفتوحًا على كل الاحتمالات. ويُعَدّ هذا الفصل خيارًا استراتيجيًا يسمح لها بالضغط من دون تحمّل كلفة قرار الحرب الشاملة، ولعلّ هذا ما يفسّر بالتحديد استمرار الغارات الإسرائيلية بعيد جلسة "الميكانيزم" الأخيرة، وتنويه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمداولاتها.
في هذا السياق، تُستخدم التنبيهات والغارات وغيرها من الانتهاكات الإسرائيلية كأدوات ضغط ميداني على الطرف الآخر، وبالتالي فهي تُعَدّ أيضًا أدوات تفاوض غير مباشرة. بمعنى آخر، هي رسائل بالنار، تُرفق عادة بلغة سياسية مرنة، تفتح الباب أمام الوسطاء، من دون أن تُغلق في الوقت نفسه باب التصعيد. ولعلّ حادثة يانوح تندرج في هذا الإطار تحديدًا: قبول بتجميد ضربة، لا لأنّ قواعد الاشتباك تغيّرت، بل لأنّ لحظة الحسابات اقتضت ذلك.
لكنّ هذا الأمر لا يعني، في المقابل، أنّ إسرائيل في وارد التخلّي عن خيار التصعيد الأوسع، إذ إنّ كلّ المعطيات المتداولة تشير إلى استمرار التحضيرات العسكرية، وإلى أنّ أي فشل في إدارة هذه المرحلة قد يدفع نحو جولة أشدّ قسوة، بل إنّ هناك بين الإسرائيليين من يتحدّث عن "حتميّة" هذا الخيار، ليس بالضرورة بعد انقضاء مهلة نهاية العام، بل ربما قبلها، حتى لو صحّت التقديرات بأنّ الولايات المتحدة هي التي تفرض هذه المهلة، وترفض التصعيد.
من هنا، تبدو المفاوضات الجارية أقرب إلى وسيلة لشراء الوقت وترتيب الأولويات، لا إلى مسار يفضي إلى تسوية مستقرة. وبالانتظار، كشفت حادثة يانوح حدود ما يمكن للدولة اللبنانية أن تفعله في هذه المرحلة. فالجيش أظهر قدرة على التدخّل حين تتوافر الشروط، لكنّه تحرّك ضمن هامش ضيّق، محكوم بتوازنات معقّدة وبسقف إقليمي لا تتحكّم به بيروت. وبالتالي، فإنّ الجيش لعب دور ضابط إيقاع مرحلي، وهو دور بالغ الحساسية، لكنّه محدود بطبيعته.
هذا الدور لا يمكن تحويله بسهولة إلى سياسة ثابتة. فكل حادثة تحتاج إلى توافر متزامن لعناصر عدّة: قرار سياسي، سرعة ميدانية، وتقدير دقيق لردّ الفعل الإسرائيلي، وأي خلل في هذه العناصر كفيل بإسقاط النموذج، علمًا أنّ ذلك يبقى خاضعًا للمزاجية الإسرائيلية، فإذا كان بالإمكان التحكّم بالقرار والسرعة، يبقى ردّ الفعل الإسرائيلي غير مضمون، كما حصل في محطّات سابقة، حين لم تُجدِ التدخّلات اللبنانية نفعًا، وأصرّت إسرائيل على تنفيذ غاراتها.
من هنا، يصبح الرهان على تعميم نموذج يانوح رهانًا محفوفًا بالمخاطر. فالدولة اللبنانية، في وضعها الحالي، لا تملك أدوات فرض قواعد جديدة، بل تتحرّك ضمن ما يُسمح لها به، كما أنّ "حزب الله" اليوم ليس نفسه "حزب الله" قبل الحرب الأخيرة، وبالتالي فلا دور معتبرًا له في معادلات الردع، وهذا ما يجعل أي نجاح عرضة للتحوّل إلى استثناء، يُستعاد في الخطاب أكثر ممّا يُبنى عليه في السياسات.
في خضمّ هذا المشهد، عادت مصر إلى الواجهة، مع حراك دبلوماسي متجدّد وزيارة مرتقبة لرئيس وزرائها إلى بيروتهذا الأسبوع، وهي زيارة تُقرَأ كرسالة إلى بيروت، بأنّ القاهرة معنيّة باستكمال الحراك الذي بدأته أخيرًا، وبالتالي منع انزلاق الوضع إلى مواجهة واسعة، علمًا أنّ الدور المصري تاريخيًا لم يكن دور صانع تسويات نهائية في الساحات المتفجّرة، بل دور “خفض مخاطر”، يتدخّل حين تقترب الأطراف من الحافة.
من هنا، يمكن القول إنّ مصر لا تأتي حاملة حلولًا كبرى، بل محاولة تثبيت خطوط تواصل، ومنع سوء تقدير قد يفجّر الوضع. ومع أنّ هذا الدور يتقاطع مع أدوار أخرى، أميركية وأوروبية، إلا أنّه يكتسب خصوصيته من قدرة القاهرة على مخاطبة أطراف متعدّدة، ومن خبرتها في إدارة الأزمات لا حلّها، وهو ما يعزّز فكرة أنّ المرحلة الحالية ليست مرحلة تسويات، بل مرحلة احتواء.
ما الذي يُحضَّر فعليًا؟ قد يكون هذا هو السؤال المركزي الذي يفرض نفسه الآن، في ظلّ العديد من السيناريوهات التي تبدو مفتوحة، لكنها بمجملها تدور ضمن هامش محدّد: تصعيد مضبوط، ضغط عسكري متدرّج، أو انفجار أوسع إذا فشلت إدارة التوازنات.
الثابت بين كل هذه السيناريوهات، أنّ لبنان يبقى في موقع المتلقّي أكثر منه صاحب المبادرة. وبالتالي، فإنّ المفاوضات قد تؤجّل المواجهة، والحراك الدبلوماسي قد يخفّف حدّتها، لكنّ القرار النهائي لا يزال مرتبطًا بميزان القوى الإقليمي، وبالحسابات الإسرائيلية تحديدًا. في هذا المشهد، لا تشكّل يانوح نقطة تحوّل، ولا يشكّل الحراك المصري ضمانة، بل علامتين على مرحلة انتقالية خطرة، يصحّ وصفها بإدارة دقيقة لحافة الانفجار، بحيث تُدار فيها المواجهة لكنها لا تُحسم.