الميسورون والمدينون والسياسيون والفنّانون.. كلّهم في 'التفشيخ' سواء: من اقتناء السيارات إلى إدمان الماركات
فشخ الصبيان في لعبهم أي كذبوا فيه وتضاربوا وفشخ فلانٌ فلاناً بمعنى صفعه ولطمه... هذا ما تورده القواميس حول معنى فعل «فشخ»، أما «"فشّخ»"فيعني أرخى مفاصله كما في عبارة"فشّخ" الرجل رجليه... إذاً لا شيء في اللغة يوازي معني "التفشيخ" باللبناني... هذه العادة المتأصلة التي استطاعت الصمود بعزم في وجه الأزمة ولم تتزعزع إلا يسيراً عند هواة التفشيخ وأربابه. فما سرها ولماذا يهوى اللبناني «التفشيخ» حتى وهو على "«..."».
من السيارات «المفيّمة» الى اللوحات المميزة من ثلاثة أو أربعة أرقام، الى فتح زجاجات الشامبانيا في السهرات ومد طاولات المأكولات البحرية وصولاً إلى عدم التجول أو التريّض بدون مرافقين أو من يشيلون حقيبة اليد وأكياس الشوبينغ... تتعدد اساليب التفشيخ لكن يبقى المبدأ واحداً: التباهي بما يملكه المرء (أو حتى بما لا يملكه) وحب الظهور. سياسيون، فنانون أو من عامة الشعب، ميسورون او «على قد حالهم» تتملكهم رغبة واحدة لا يستطيعون السيطرة عليها وهي الاستعراض أمام الناس. عقدة نفسية أم اجتماعية أم هي وليدة المجتمع اللبناني العاشق للمظاهر؟
رغم الأزمة
هل تتخيلون انه في بلد يكاد يقارب سعر صفيحة البنزين فيه مليوني ليرة لا يزال هناك أشخاص يفتشون عن أرقام مميزة لسياراتهم؟ فلطالما اشتهى اللبناني أن يتميز كرقم ولو على لوحة سيارته لذلك سعى وزراء الداخلية في العقود الأخيرة إلى توزيع الأرقام المميزة على المحسوبين عليهم كهدايا شكر وولاء، وعملوا على قوننة عملية توزيع اللوحات المميزة والرسوم المفروضة عليها. سعر اللوحة المميزة كان قبل جنون الانهيار وتضارب الأرقام يتراوح ما بين 3،5 ملايين و 27 مليون ليرة ورسمها ما بين 150 الى 450 الف ليرة. فيما ترتفع اسعار اللوحات المؤلفة من 3 ارقام لتصل الى 45 مليون ليرة كحد اقصى. ويرتفع رسمها الى 750 الفاً. وكلما زاد تميّز الأرقام وتسلسلها زاد سعرها ورسومها. حتى أن بعض الأرقام المميزة المتسلسلة مثل 300 أو 3000 أو 300000 كانت تباع عن طريق المزاد العلني. وكان المستميتون في الحصول عليها يزايدون للفوز بالرقم دون سواهم. و كان يحلو للبعض الحصول على رقم يشابه رقم هاتفهم أو تاريخ مولدهم مهما كلفهم.
المفشّخون القدامى
بعض من ساءت أحوالهم من قدامى المفشّخين عمد مع اشتداد الأزمة الى بيع رقم سيارته (حين كانت النافعة لا تزال تعمل) ووجد من يشتريه بسهولة. ويقول إيلي «ما إن تكلمت أمام صديق لي أنني مستعد لبيع رقم سيارتي الرباعي حتى انهالت علي الاتصالات. لم أصدق ان هناك من هو مستعد اليوم لدفع 30 مليون ليرة ثمن لوحة من أربعة أرقام». رقم سيارته شكل له استثماراً مربحاً لكن من يقتني هذه الأرقام عادة لا يفكر بالربح والدليل أن 80% من أصحاب الأرقام المميزة هم من الطبقة المتوسطة الكادحة بحسب أحد التقارير.
يصعب حصر التفشيخ بحالة واحدة فهو يتمدد ليطال كل مظاهر الحياة رغم اشتداد الأزمة. والأمثلة كثيرة وما رواج الصفحات الالكترونية التي تبيع النسخ المقلدة للماركات العالمية بشكل غير مسبوق سوى دليل على ذلك. حقائب يد، ساعات وأحذية «باب أول» كلها تجد من يقتنيها، لا لقيمة مادية لها بل لأنها تجعل مقتنيها، يتماهى مع الطبقة الميسورة القادرة على شرائها فيقارعها في عقر دارها كأنه يأبى الاعتراف بواقعه ويعيش حالة نكران. وتقول فائزة السيدة البيروتية الأربعينية «كلما ساء الوضع وساءت أموري أفتش عن «جزدان» جديد أتباهى به أمام صديقاتي لأظهر أمامهن أنني بخير ولست من طبقة الفقراء الجدد التي يرثون لحالها، حقيبة الشانيل تعطيني شعوراً بالأمان وكأنني لم أتاثر بالأزمة ولن انهار». النية صافية إذاً والهدف نفسي وليس تفشيخاً وقهراً للصديقات!
وأتت مواقع التواصل الاجتماعي لتؤجج هذه الرغبة في التفشيخ لا سيما التفشيخ الكاذب المدّعي. فهؤلاء ما عادوا بحاجة لتخطي قدراتهم المادية للظهور بل يكفي أن يعرضوا صوراً لهم في صالونات الآخرين او قرب سيارة فيراري متوقفة أمام مطعم ما ليعكسوا الصورة التي يريدونها لأنفسهم.
أي سيارات لأي طرقات؟
في الصيفي فيلاج تصطف سيارات تتجاوز أسعارها المليوني دولار أمام أحد المطاعم الإيطالية ويتزاحم شباب الفاليه باركينغ لركنها في الشوارع المحيطة.الأكل في المطعم ليس مميزاً على ما قيل لي لكن اسعاره تحلق في الأعالي ويجالس صاحبه الذي لا يتخلى عن سيكاره الثخين الزبائن كل على طاولته وكأنه يمنّ عليهم ببركاته. رواد المطعم من الفشيخة، الحقيقين والمزيفين، يبحثون فيه عن أكثر من طبق طيب، يبحثون عن عالم خاص بهم يشعرون في مساحته أنهم يعيشون حقيقة مختلفة عن سواهم يتباهون بها على من يمرون في الشارع ويتفرجون عليهم من بعيد. «جاسبر» وهو شاب أميركي يعيش في المنطقة متفاجئ جداً من عدد سيارات السبور الفخمة التي يراها أمام الكافيهات والمطاعم، يتساءل أين يمكن قيادة سيارات مماثلة في لبنان حيث الأوتوسترادات مزدحمة بالموتسيكلات والسيارات والفانات، والطرقات مليئة بالحفر والنفايات والبلاد تعيش أسوأ أزمة في العالم؟ لم ير «جاسبر» اصحاب هذه السيارات يوماً يتمشون في منطقة الصيفي فيلاج الجميلة ويستمتعون بالشمس أو بالتفرج على واجهات المحلات وكأن هدفهم الوحيد هو أن يقصدوا المطعم المعروف الذي تطغى هالة اسمه على حقيقته.
سياسيو لبنان من جهتهم يبدو وكأنهم اعتزلوا التفشيخ اليوم وتمسكنوا. ما عاد المواطن المقهور يلمحهم في الداون تاون أو يلمح سياراتهم أمام مطعم le Phenicien في سن الفيل إلّا في ما ندر. لكن وكما يقول أحد العارفين ما كانوا يقومون به في العام نقلوه الى الخاص وباتت المآدب العامرة تقام في البيوت او اليخوت خشية من عيون شعب جائع. وصارت مباهاتهم اليوم لفظية تقتصرعلى ما ورثوه من أمجاد سواء عائلياً أو حزبياً حتى ليصح في جميعهم المثل القائل «القرعة تتغنى بشعر بنت خالتها».
مظاهر تفشيخ نافرة في زمن صعب اردنا فهم أسبابها ودوافعها، سألنا د. ميرنا زخريّا، وهي محاضِرة جامعية وباحثة في عِلم الإجتماع السياسي بداية من هو الشخص الفشّيخ وما أسباب فِعل التفشيخ؟
تباهٍ كاذب ومرَضي
التباهي أو»التفشيخ» كما يسمى بالعامية يتوزع على أنواع مختلفة من الأشخاص، فهناك المتباهي ضمن حدود الواقع، يتفاخر بأسلوب حياته بسهراته وسياراته ومنازله وهي كلها فعلياً ملكه، وقد اختار أن يبرزها للعلن. ومع أن هدفه يتمحور حول استرعاء مزيد من الإنتباه إلا أنه لا يدور في فلك الخداع والتضليل. ثانياً هناك الفشّيخ المتباهي الذي قد يلامس الحدّ المَرضي، فيتفاخر بما ليس ضمن إمكانياته المادية أو صفاته الشخصية، كأن يقتطِع مثلاً مبالغ تفوق طاقته لارتياد المطاعم الفخمة، أو كأن يكتب معلومات كاذبة على صفحته حول مستواه التعليمي أو مركزه الوظيفي، ذلك أنه يطمح للإندماج في مجتمع لم يولد فيه، وتسلّق السلّم الإجتماعي عبر الظهور بما ليس هو عليه. وهنا تؤكد الدكتورة الباحثة أن الوضع قد قد يصبح مَرَضِيّاً حين يُصدّق أفراد هذه الفئة من المتباهين بأن الوَهم هو الحقيقة ويُصدَمون من ثم حين يضطرّون للعودةِ إلى واقعهم المتواضع. أخيراً هناك النوع الثالث من التباهي الذي يمتاز به السياسيون والفنانون حيث يتفاخر هؤلاء لا بإنجازاتهم أو ممتلكاتهم الخاصة بل بإنجازات أحد أفراد العائلة المشهورين السابقين، فتراهم يذكرونه كلما سنحت الفرصة بذلك ويضعون صوره خلفهم في معظم اطلالاتهم، كأنهم يحاولون الإيحاء باستمرار تلك الحقبة المجيدة في السياسة أو الفن عبر نشاطات الورثة والأبناء.
رغم ما يعيشه لبنان من كوارث مالية وانهيار للقدرة الشرائية لا تزال مظاهر التفشيخ قائمة عند الفئات الثلاث المذكورة سابقاً ومن هنا كان لا بدّ أن نسأل د. زخريا: ألم يؤثر تردّي الحالة الإقتصادية على مظاهر التفشيخ؟
تؤكد أن أثر الحالة الإقتصادية على أحوال التباهي والتفشيخ محدود في واقع الأمر، بالأخصّ لناحية التباهي الكاذب أو المرضيّ؛ إذ مثلما هناك شريحة من الناس تفضّل إدّعاء الفقر خشية أن يطلب منها أحدهم المساعدة أو يحسدها عمّا هي فيه من رخاء، ففي المقلب الآخر هناك شريحة تجهد للإنخراط بشتّى السبل في محيط مَن يفوقها شأناً. ولا وزن يُذكر للتراجع الإقتصادي على هذا أو ذاك، ولا حتى على الميسور مادياً الذي كان وما زال يعيش ضمن قدراته المريحة. لذلك، وبالرغم من انهيار الليرة اللبنانية، لا نزال نصادف في كثيرٍ من الأحيان سيناريوات «التباهي المادي» نفسها التي كنّا نشهدها سابقاً. أما في ما يخصّ فئة المتباهين بأمجاد ماضية بدل الأمجاد الذاتية، فبطبيعة الحال لن يؤثر على سلوكياتهم انهيار مالي أو نقدي، ذلك أن «التباهي المعنوي» بإنجازات غيرهم بات في هذه الظروف السيئة بمثابة حاجة لهم.
وبعد، في بلد منهار منهك و»زهقان» من الإدعاء أنه بخير، هل من تفسير منطقي علمي للتفشيخ وسلوكياته في أبحاث العلم الإجتماعي؟ إذ لا شك ان ثمة سبباً خفياً وراء هذه الرغبة الكامنة دوماً عند اللبناني في التباهي وحب الظهور لا تحجبها ظروف. وفي هذا الصدد تشرح د. زخريا أنه ما من شك أن هناك شعوباً تهتم بالمظاهر وبالظهور أكثر من غيرها، وبشكل خاص شعوب المجتمعات الصغيرة عدديّاً وجغرافيّاً حيث الناس تعرف بعضها البعض وبالتالي تتناقل أخبار بعضها البعض وتراقب بعضها والكل يحتاج الى تلميع صورته ليكون مرئياً. وكلما كانت الحياة الاجتماعية صاخبة كلما زادت الرغبة في التباهي والعكس صحيح. وبحسب علماء النفس التطوّري فإن التباهي هو تصرّف استعراضي، علماً أنه من الطبيعي أن يستمتع المرء بما أنعم الله عليه وأن يهتم بصورته لدى الآخرين، لكن ما ليس طبيعياً هو ان يتقمّص المرء حياة الآخرين، وهنا يكمن الفرق بين مُتباهٍ محقّ ومتباهٍ مريض، بين متباهٍ يعيش واقعه ومتباهٍ يرفضه. لكن يبدو أن حابل التفشيخ مختلط بنابله في لبنان.
من السيارات «المفيّمة» الى اللوحات المميزة من ثلاثة أو أربعة أرقام، الى فتح زجاجات الشامبانيا في السهرات ومد طاولات المأكولات البحرية وصولاً إلى عدم التجول أو التريّض بدون مرافقين أو من يشيلون حقيبة اليد وأكياس الشوبينغ... تتعدد اساليب التفشيخ لكن يبقى المبدأ واحداً: التباهي بما يملكه المرء (أو حتى بما لا يملكه) وحب الظهور. سياسيون، فنانون أو من عامة الشعب، ميسورون او «على قد حالهم» تتملكهم رغبة واحدة لا يستطيعون السيطرة عليها وهي الاستعراض أمام الناس. عقدة نفسية أم اجتماعية أم هي وليدة المجتمع اللبناني العاشق للمظاهر؟
رغم الأزمة
هل تتخيلون انه في بلد يكاد يقارب سعر صفيحة البنزين فيه مليوني ليرة لا يزال هناك أشخاص يفتشون عن أرقام مميزة لسياراتهم؟ فلطالما اشتهى اللبناني أن يتميز كرقم ولو على لوحة سيارته لذلك سعى وزراء الداخلية في العقود الأخيرة إلى توزيع الأرقام المميزة على المحسوبين عليهم كهدايا شكر وولاء، وعملوا على قوننة عملية توزيع اللوحات المميزة والرسوم المفروضة عليها. سعر اللوحة المميزة كان قبل جنون الانهيار وتضارب الأرقام يتراوح ما بين 3،5 ملايين و 27 مليون ليرة ورسمها ما بين 150 الى 450 الف ليرة. فيما ترتفع اسعار اللوحات المؤلفة من 3 ارقام لتصل الى 45 مليون ليرة كحد اقصى. ويرتفع رسمها الى 750 الفاً. وكلما زاد تميّز الأرقام وتسلسلها زاد سعرها ورسومها. حتى أن بعض الأرقام المميزة المتسلسلة مثل 300 أو 3000 أو 300000 كانت تباع عن طريق المزاد العلني. وكان المستميتون في الحصول عليها يزايدون للفوز بالرقم دون سواهم. و كان يحلو للبعض الحصول على رقم يشابه رقم هاتفهم أو تاريخ مولدهم مهما كلفهم.
المفشّخون القدامى
بعض من ساءت أحوالهم من قدامى المفشّخين عمد مع اشتداد الأزمة الى بيع رقم سيارته (حين كانت النافعة لا تزال تعمل) ووجد من يشتريه بسهولة. ويقول إيلي «ما إن تكلمت أمام صديق لي أنني مستعد لبيع رقم سيارتي الرباعي حتى انهالت علي الاتصالات. لم أصدق ان هناك من هو مستعد اليوم لدفع 30 مليون ليرة ثمن لوحة من أربعة أرقام». رقم سيارته شكل له استثماراً مربحاً لكن من يقتني هذه الأرقام عادة لا يفكر بالربح والدليل أن 80% من أصحاب الأرقام المميزة هم من الطبقة المتوسطة الكادحة بحسب أحد التقارير.
يصعب حصر التفشيخ بحالة واحدة فهو يتمدد ليطال كل مظاهر الحياة رغم اشتداد الأزمة. والأمثلة كثيرة وما رواج الصفحات الالكترونية التي تبيع النسخ المقلدة للماركات العالمية بشكل غير مسبوق سوى دليل على ذلك. حقائب يد، ساعات وأحذية «باب أول» كلها تجد من يقتنيها، لا لقيمة مادية لها بل لأنها تجعل مقتنيها، يتماهى مع الطبقة الميسورة القادرة على شرائها فيقارعها في عقر دارها كأنه يأبى الاعتراف بواقعه ويعيش حالة نكران. وتقول فائزة السيدة البيروتية الأربعينية «كلما ساء الوضع وساءت أموري أفتش عن «جزدان» جديد أتباهى به أمام صديقاتي لأظهر أمامهن أنني بخير ولست من طبقة الفقراء الجدد التي يرثون لحالها، حقيبة الشانيل تعطيني شعوراً بالأمان وكأنني لم أتاثر بالأزمة ولن انهار». النية صافية إذاً والهدف نفسي وليس تفشيخاً وقهراً للصديقات!
وأتت مواقع التواصل الاجتماعي لتؤجج هذه الرغبة في التفشيخ لا سيما التفشيخ الكاذب المدّعي. فهؤلاء ما عادوا بحاجة لتخطي قدراتهم المادية للظهور بل يكفي أن يعرضوا صوراً لهم في صالونات الآخرين او قرب سيارة فيراري متوقفة أمام مطعم ما ليعكسوا الصورة التي يريدونها لأنفسهم.
أي سيارات لأي طرقات؟
في الصيفي فيلاج تصطف سيارات تتجاوز أسعارها المليوني دولار أمام أحد المطاعم الإيطالية ويتزاحم شباب الفاليه باركينغ لركنها في الشوارع المحيطة.الأكل في المطعم ليس مميزاً على ما قيل لي لكن اسعاره تحلق في الأعالي ويجالس صاحبه الذي لا يتخلى عن سيكاره الثخين الزبائن كل على طاولته وكأنه يمنّ عليهم ببركاته. رواد المطعم من الفشيخة، الحقيقين والمزيفين، يبحثون فيه عن أكثر من طبق طيب، يبحثون عن عالم خاص بهم يشعرون في مساحته أنهم يعيشون حقيقة مختلفة عن سواهم يتباهون بها على من يمرون في الشارع ويتفرجون عليهم من بعيد. «جاسبر» وهو شاب أميركي يعيش في المنطقة متفاجئ جداً من عدد سيارات السبور الفخمة التي يراها أمام الكافيهات والمطاعم، يتساءل أين يمكن قيادة سيارات مماثلة في لبنان حيث الأوتوسترادات مزدحمة بالموتسيكلات والسيارات والفانات، والطرقات مليئة بالحفر والنفايات والبلاد تعيش أسوأ أزمة في العالم؟ لم ير «جاسبر» اصحاب هذه السيارات يوماً يتمشون في منطقة الصيفي فيلاج الجميلة ويستمتعون بالشمس أو بالتفرج على واجهات المحلات وكأن هدفهم الوحيد هو أن يقصدوا المطعم المعروف الذي تطغى هالة اسمه على حقيقته.
سياسيو لبنان من جهتهم يبدو وكأنهم اعتزلوا التفشيخ اليوم وتمسكنوا. ما عاد المواطن المقهور يلمحهم في الداون تاون أو يلمح سياراتهم أمام مطعم le Phenicien في سن الفيل إلّا في ما ندر. لكن وكما يقول أحد العارفين ما كانوا يقومون به في العام نقلوه الى الخاص وباتت المآدب العامرة تقام في البيوت او اليخوت خشية من عيون شعب جائع. وصارت مباهاتهم اليوم لفظية تقتصرعلى ما ورثوه من أمجاد سواء عائلياً أو حزبياً حتى ليصح في جميعهم المثل القائل «القرعة تتغنى بشعر بنت خالتها».
مظاهر تفشيخ نافرة في زمن صعب اردنا فهم أسبابها ودوافعها، سألنا د. ميرنا زخريّا، وهي محاضِرة جامعية وباحثة في عِلم الإجتماع السياسي بداية من هو الشخص الفشّيخ وما أسباب فِعل التفشيخ؟
تباهٍ كاذب ومرَضي
التباهي أو»التفشيخ» كما يسمى بالعامية يتوزع على أنواع مختلفة من الأشخاص، فهناك المتباهي ضمن حدود الواقع، يتفاخر بأسلوب حياته بسهراته وسياراته ومنازله وهي كلها فعلياً ملكه، وقد اختار أن يبرزها للعلن. ومع أن هدفه يتمحور حول استرعاء مزيد من الإنتباه إلا أنه لا يدور في فلك الخداع والتضليل. ثانياً هناك الفشّيخ المتباهي الذي قد يلامس الحدّ المَرضي، فيتفاخر بما ليس ضمن إمكانياته المادية أو صفاته الشخصية، كأن يقتطِع مثلاً مبالغ تفوق طاقته لارتياد المطاعم الفخمة، أو كأن يكتب معلومات كاذبة على صفحته حول مستواه التعليمي أو مركزه الوظيفي، ذلك أنه يطمح للإندماج في مجتمع لم يولد فيه، وتسلّق السلّم الإجتماعي عبر الظهور بما ليس هو عليه. وهنا تؤكد الدكتورة الباحثة أن الوضع قد قد يصبح مَرَضِيّاً حين يُصدّق أفراد هذه الفئة من المتباهين بأن الوَهم هو الحقيقة ويُصدَمون من ثم حين يضطرّون للعودةِ إلى واقعهم المتواضع. أخيراً هناك النوع الثالث من التباهي الذي يمتاز به السياسيون والفنانون حيث يتفاخر هؤلاء لا بإنجازاتهم أو ممتلكاتهم الخاصة بل بإنجازات أحد أفراد العائلة المشهورين السابقين، فتراهم يذكرونه كلما سنحت الفرصة بذلك ويضعون صوره خلفهم في معظم اطلالاتهم، كأنهم يحاولون الإيحاء باستمرار تلك الحقبة المجيدة في السياسة أو الفن عبر نشاطات الورثة والأبناء.
رغم ما يعيشه لبنان من كوارث مالية وانهيار للقدرة الشرائية لا تزال مظاهر التفشيخ قائمة عند الفئات الثلاث المذكورة سابقاً ومن هنا كان لا بدّ أن نسأل د. زخريا: ألم يؤثر تردّي الحالة الإقتصادية على مظاهر التفشيخ؟
تؤكد أن أثر الحالة الإقتصادية على أحوال التباهي والتفشيخ محدود في واقع الأمر، بالأخصّ لناحية التباهي الكاذب أو المرضيّ؛ إذ مثلما هناك شريحة من الناس تفضّل إدّعاء الفقر خشية أن يطلب منها أحدهم المساعدة أو يحسدها عمّا هي فيه من رخاء، ففي المقلب الآخر هناك شريحة تجهد للإنخراط بشتّى السبل في محيط مَن يفوقها شأناً. ولا وزن يُذكر للتراجع الإقتصادي على هذا أو ذاك، ولا حتى على الميسور مادياً الذي كان وما زال يعيش ضمن قدراته المريحة. لذلك، وبالرغم من انهيار الليرة اللبنانية، لا نزال نصادف في كثيرٍ من الأحيان سيناريوات «التباهي المادي» نفسها التي كنّا نشهدها سابقاً. أما في ما يخصّ فئة المتباهين بأمجاد ماضية بدل الأمجاد الذاتية، فبطبيعة الحال لن يؤثر على سلوكياتهم انهيار مالي أو نقدي، ذلك أن «التباهي المعنوي» بإنجازات غيرهم بات في هذه الظروف السيئة بمثابة حاجة لهم.
وبعد، في بلد منهار منهك و»زهقان» من الإدعاء أنه بخير، هل من تفسير منطقي علمي للتفشيخ وسلوكياته في أبحاث العلم الإجتماعي؟ إذ لا شك ان ثمة سبباً خفياً وراء هذه الرغبة الكامنة دوماً عند اللبناني في التباهي وحب الظهور لا تحجبها ظروف. وفي هذا الصدد تشرح د. زخريا أنه ما من شك أن هناك شعوباً تهتم بالمظاهر وبالظهور أكثر من غيرها، وبشكل خاص شعوب المجتمعات الصغيرة عدديّاً وجغرافيّاً حيث الناس تعرف بعضها البعض وبالتالي تتناقل أخبار بعضها البعض وتراقب بعضها والكل يحتاج الى تلميع صورته ليكون مرئياً. وكلما كانت الحياة الاجتماعية صاخبة كلما زادت الرغبة في التباهي والعكس صحيح. وبحسب علماء النفس التطوّري فإن التباهي هو تصرّف استعراضي، علماً أنه من الطبيعي أن يستمتع المرء بما أنعم الله عليه وأن يهتم بصورته لدى الآخرين، لكن ما ليس طبيعياً هو ان يتقمّص المرء حياة الآخرين، وهنا يكمن الفرق بين مُتباهٍ محقّ ومتباهٍ مريض، بين متباهٍ يعيش واقعه ومتباهٍ يرفضه. لكن يبدو أن حابل التفشيخ مختلط بنابله في لبنان.