لبنان بلد الينابيع والأنهر يدخل مرحلة "الفقر المائي المُدقع"!

ليس تفصيلا أن يدخل لبنان بلد الينابيع والأنهر مرحلة "الفُقر المائي المدقع"، وفق تقديرات المرصد اللبناني للمياه لعام 2023، بحيث أصبحت حصة الفرد السنوية من المياه في لبنان أقل من 500 متر مكعب، أي إلى ما دون نصف خط الفقر المائي المحدد بنحو 1000 متر مكعب سنويا، وما دون خط النُدرة المائية المُحدد بنحو 500 متر مكعب. ونقلت وكالة "فرانس برس" في تقرير لها عن مصادر، في مصلحة الأرصاد الجوية اللبنانية أن معدلات الأمطار في عامي 2024-2025 تُعد "الأسوأ منذ 80 عاماً" في سجلات لبنان، رغم أنه شهد وضعاً مشابهاً في العام 2014، إلا أنّ ما حصل في موسم الأمطار 2025 كان أشد قسوة. إذ إنخفض معدل هطول الأمطار السنوي في الموسم الماضي بنسبة 50 بالمئة، بالمقارنة مع متوسط السنوات الماضية الذي تراوح بين 700 و1000 ملم.
وأشار تقرير صادر عن "اليونيسف" و"واش كلاستر"(التابع للأمم المتحدة وتديره اليونيسف)، عن قطاع المياه في لبنان، الى أن "تأثير الجفاف في لبنان أصبح بالفعل مُدمراً، إذ يعيش 1.85 مليون شخص في مناطق شديدة التأثر بالجفاف، ويعتمد أكثر من 44 بالمئة من السكان على خدمات صهاريج المياه المكلفة وغالباً غير الآمنة، ومن المُتوقع أن ترتفع هذه النسبة في المستقبل. فضلاً عن التأثيرات غير المباشرة على السكان بسبب تأثر قطاعات الزراعة والصناعة والطاقة والصحة وغيرها.
تجارة المياه وزيادة الأعباء على العائلات
كل الأرقام والتوقعات التي سبق ذكرها أعلاه، يعيش اللبناني تداعياتها يوميا من خلال قوافل الصهاريج، التي يراها تنقل المياه الى المنازل من ساعات الصباح الأولى وحتى مُنتصف الليل. ما دفع العديد من أصحابها(الصهاريج) إلى تأسيس شركات بيع مياه تعمل منذ سنوات من دون أي رقابة أو محاسبة، وبممارسات أقرب إلى "الخوّة". إذ يتراوح سعر 1000 ليتر من المياه بين 10 دولارات في الضاحية الجنوبية وأحياء بيروت الشعبية، ويصل إلى 15 دولارًا في مناطق فردان، وعين التينة، وعائشة بكّار، والأشرفية. وبحسب دراسة صادرة عن "الدولية للمعلومات" في نيسان الماضي، تبيّن أن كلفة الاشتراك السنوي في مياه بيروت وجبل لبنان تبلغ حاليًا 16,170,000 ليرة للمتر المكعب سنويًا، أي ما يعادل 1,347,500 ليرة شهريًا.
وتحتاج الأسرة اللبنانية، بالحد الأدنى، إلى غالونين من المياه يوميًا للشرب والطهي، يتراوح سعر الواحد منهما بين 150 ألفًا و350 ألف ليرة، ما يعني أن الكلفة الشهرية للمياه المخصصة للشرب والطهي تتراوح بين 1.2 مليون و2.8 مليون ليرة.
وفي حال إضطرت الأسرة إلى شراء كميات إضافية من المياه، بسبب الإنقطاع (وهو أمر شائع، إذ تعتمد الغالبية العظمى من المواطنين على صهاريج المياه بشكل متكرر)، تصبح كلفة المياه شهريًا للأسرة اللبنانية ما بين 2.5 مليون و4.2 مليون ليرة، بمتوسط يُقدّر بنحو 3.35 ملايين ليرة. وإذا ما إعتمدنا الحد الأدنى للأجور، الذي يبلغ 18 مليون ليرة لبنانية، فإن كلفة المياه تشكّل نحو 20 بالمئة من هذا الحد، وهي نسبة مرتفعة جدًا.
تُعبّأ الصهاريج بالمياه من "آبار" موزّعة بين الحازمية، وتحويطة فرن الشباك، والدكوانة، علمًا أن المياه الجوفية وفيرة في المنطقة الممتدة من خط خلدة، مرورًا بالشويفات، الحازمية، فرن الشباك، وصولًا إلى المرفأ. كما توجد آبار في قلب الضاحية الجنوبية، وتحديدًا في برج البراجنة ومحيط المطار، رغم أن بعض الصهاريج تعتمدها رغ م ملوحة مياهها.
مشكلة المياه سببها سوء الإدارة
كلّ ما سبق يدلّ على أنّ أزمة المياه في لبنان تتفاقم عامًا بعد عام، ولم تعد مجرّد معاناة موسمية مرتبطة بالجفاف، بل تحوّلت إلى كارثة دائمة، تتشابك فيها خيوط الإهمال الرسمي، والفساد المالي، والإنهيار الإقتصادي، والتغيّرات المناخية. لكن الحكومة اللبنانية ووزارة الطاقة على وجه الخصوص، لم تتصد لأزمة المياه كما يجب (كما يؤكد الخبراء) إذ لم تضع خطّة ولا برامج، ولم ترصد الإعتمادات اللازمة لتخفيف المخاطر والخسائر والحد من التداعيات، وإكتفى وزير الطاقة والمياه بالطلب إلى مؤسسات المياه وضع خطة منسّقة للإستجابة لأزمة الجفاف. ونظراً للإمكانيات المحدودة جدّاً لمؤسّسات المياه، لم تتضمن الخطة سوى تزويد المجتمعات المحرومة بالمياه عبر صهاريج الطوارئ، وإعادة تأهيل الآبار غير العاملة لاستعادة توفر المياه بسرعة، وإجراء إصلاحات سريعة للتسريبات.
ويشرح خبير في الثروة المائية ل"ليبانون ديبايت" أنّ "مشكلة المياه في لبنان لها عدّة مستويات، أولها أن الموارد الأساسية للمياه تُدار بشكل سيئ، سواء أكانت مياهاً سطحية أم جوفية. وهناك غياب لإدارة حقيقية وفعالة لقطاع المياه، وهي مشكلة كبيرة، لأن لبنان يمتلك مقومات مائية جيدة من حيث تساقط الأمطار، وتوفر الينابيع والمياه الجوفية، ولكن يتم استغلالها بشكل غير رشيد".
ويضيف: "من جهة ثانية، هناك مشاكل تتعلق بشبكات المياه وتسربها، حيث تعاني الشبكات من التقادم، وتُقدّر نسبة الهدر بنحو 40 بالمئة. علمًا أن إدارة المياه يجب أن تنطلق أساسًا من مقاربة تعتمد على الأحواض المائية، غير أن إدارات المياه في لبنان لا تُنظّم هذه الأحواض بطريقة تتناسب مع إحتياجات القطاع. فعلى سبيل المثال، يجب إدارة حوض جعيتا وفق إستراتيجية شاملة، وليس عبر تقسيمه بين أكثر من إدارة مياه".
ويختم:"هناك أيضًا مشكلة إستهلاك المياه من دون عدادات، لأن المياه لا تتوافر بشكل دائم على مدار الساعة، ما يصعّب ضبط الإستهلاك، ويحول دون مساعدة المواطنين على ترشيد إستخدامهم من خلال تعرفة مبنية على كمية الإستهلاك الفعلي".