الغلاء يلتهم الجيوب... وصوت الباعة يعلو فوق وجع الناس
 
                            في شوارع المدن اللبنانية وأسواقها، لم يعد الصباح كما كان. لم تعد رائحة الخبز الطازج تُغري المارة، ولا ألوان الخضار تبعث في النفس فرحًا بالحياة. كل شيء صار يثقل القلب والجيب معًا. الغلاء يزحف كالنار في الهشيم، يأكل ما تبقى من مالٍ في الجيوب، والرواتب الهزيلة لا تكاد تسد الرمق.
الناس في دوامة الأسعار، يراقبون لوحات السوق كما لو أنها نبض قلوبهم. الأرقام تتبدل بين ليلة وضحاها. من كان بالأمس يشتري كيسًا من الخضار، بات اليوم يحسب كل حبة قبل أن يضعها في الميزان. فالخضار – التي كانت زينة المائدة اللبنانية – ستغدو حلمًا بعيد المنال عن موائد الفقراء. فالفتوش بلا خضار، والتبولة بلا بندورة، ليستا مجرّد وجبتين ناقصتين، بل لأنهما رمز لفقدان أبسط مقومات العيش الكريم .
في سوق الخضار الشعبي في صيدا، تختلط الأصوات بالصخب والشكوى، يعلو صوت الباعة من كل جانب: تفضل يا حلو... بندورة حمرا متل الورد" خيار بلدي بيشرح القلب... لكن خلف هذا النداء، تختبئ مرارة الواقع. كل بائع يصرخ لينقذ يومه، وكل زبون يتنهّد وهو يزن ما تبقى من نقوده.
وسط زحام السوق وصخب الأسعار، تقف الحاجة أم محمود، تحمل كيسًا فارغًا وتنظر إلى البندورة كما لو كانت حلمًا بعيد المنال. تتنهد بحرقة وتقول بصوتٍ اختنق بين الحزن والدهشة: بالأمس كان الكيلو بمئةٍ وخمسين ألف ليرة، واليوم صار بمئتين وخمسين! ماذا يجري؟ إلى أين نمضي؟".
قربها، كانت أم علي المجذوب تراقب المشهد بعينٍ مثقلة بالهمّ، تهز رأسها بحسرة وتتمتم: ما عاد في مكانٍ للفقير بيننا... تخلّينا عن الكماليات، واليوم لم نعد قادرين حتى على الضروريات. كل شيء غالٍ، حتى الهواء صار يُشترى بالتعب".
يحاول البائع أبو علي الشامية أن يدافع عن نفسه أمام سيل الشكاوى، فيرفع يديه مبرّرًا: يا أختي، الغلاء مش من عندنا، نحنا بس نشتري من المورد، والمورد هو اللي يرفع الأسعار عكيفه، كل واحد بدو ربح، والمواطن آخر همّهم".
الحسيني لـ "نداء الوطن"
هكذا صار السوق مرآةً لوجع الناس. بين النداءات وأصوات الموازين المعدنية، يعلو أنين لا يسمعه أحد. لكن رئيس تجمع مزارعي الجنوب محمد الحسيني يوضح أسباب هذا الغلاء، ويقول لـ "نداء الوطن" إن ثمة عوامل أدّت إلى ارتفاع الأسعار:
أولاً: شحّ المياه الناتج عن تراجع كميات الأمطار، ما دفع العديد من المزارعين إلى التخلي عن الزراعة هربًا من أزمة الري، أو تجنبًا لتحمل تكاليف إضافية لشراء المياه.
ثانيًا: تراجع الاستيراد من سوريا بعد تحسّن الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، إذ كانت تساوي سابقًا نحو 21 ألف ليرة للدولار الواحد، وأصبحت اليوم 11 ألفًا، أي أنها تحسّنت بنحو 45 %، ما انعكس ارتفاعًا في كلفة المنتج السوري على السوق اللبنانية قياسًا على تحسن الليرة.
ثالثًا: تطبيق قرار وزير الزراعة نزار الهاني القاضي بـحصر استيراد المنتجات الزراعية بإجازات مسبقة، في خطوة تهدف إلى حماية المزارع اللبناني وتنظيم السوق المحلي، بحيث يُسمح بإدخال الكميات التي يحتاجها السوق فقط، ما يمنع الإغراق ويخفف الضغط عن الإنتاج الوطني.
تتداخل الأصوات، وتمتزج الشكوى بالعجز، كأن السوق كله ينوح بلغة واحدة. الوجوه متعبة، والجيوب خاوية. ما بين كيسٍ فارغٍ في يد الحاجة أم محمود، وصوت البائع الذي يختبئ خلف موجة الغلاء، تختصر الحكاية وجع مواطن يبحث عن لقمةٍ لا تُرهق الكرامة.
 
                 
    
 
                 
 
 
 
 
