لبنان تحت المجهر بعد زيارة البابا... زيارة تاريخية أم فرصة ضائعة؟
شكّلت زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، محطة مفصلية في تاريخ البلاد الحديث. ليس فقط لكونها أول زيارة بابوية منذ سنوات طويلة، ولا لأنها جاءت في ظل انهيار اقتصادي واجتماعي يهدد هوية لبنان وتعدديته، بل لأنها حملت رسائل سياسية بقدر ما كانت روحية، في لحظة إقليمية يغلب عليها التوتر العسكري والضغوط المتصاعدة على لبنان.
فالزيارة التي رافقها اهتمام عالمي واسع، جاءت في وقت بدا فيه المشهد اللبناني مفتوحاً على احتمالات خطيرة: تهديدات إسرائيلية متواصلة، ضغط أميركي غير مسبوق، وتحدٍّ وجودي يطال الحضور المسيحي في الشرق. من هنا، اكتسبت مواقف البابا ولقاءاته دلالات أعمق بكثير من طابعها البروتوكولي.
لا يمكن فصل الزيارة عن المناخ الأمني الذي سبقها. فإسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، أظهرتا في الاسابيع والايام التي سبقت الزيارة إصراراً على “إنهاء التهديدات اللبنانية” عبر أيّ وسيلة، سواء بالضغط السياسي أو التهديد العسكري المباشر. وجاءت في وقت كانت فيه واشنطن تمارس أقسى ضغوطها على بيروت لدفعها نحو ترتيبات أمنية تضمن أمن إسرائيل، فيما كانت الحدود الجنوبيّة تعيش على حافة حرب قابلة للاشتعال في أيّ لحظة، وبيروت والمناطق الاخرى تحت عرضة الاعتداءات المباشرة.
في هذا السياق، شكّل حضور البابا في بيروت درعاً دبلوماسياً معنويّاً ساهم في فرملة اندفاع بعض الأطراف نحو التصعيد. فالفاتيكان، وإن كان لا يمتلك قوة عسكرية، إلا أن تأثيره المعنوي والسياسي على الغرب عموماً، وأوروبا خصوصاً، لا يُستهان به. فالصورة التي نقلتها الزيارة للبنان، كدولة منهكة تقف على حدود كارثة جديدة، دفعت العديد من العواصم الغربيّة إلى إعادة تقييم خياراتها، لأنّ انفجار الوضع في لبنان كان سيخلق تداعيات إنسانيّة ومسيحيّة وأمنيّة تتجاوز حدوده بكثير. من هنا، كان للبابا دور مزدوج: رسالة للغرب بضرورة حماية لبنان من الانهيار والحرب، لا دفعه نحوهما (الحرب مع الخارج، والحرب في الداخل)، ورسالة لإسرائيل بأن أي عملية عسكرية واسعة ستكون مرفوضة دولياً، وقد تزيد من عزلتها وتغيير نظرة العالم لها. ولم يكن خافياً أن الفاتيكان استثمر مكانته لتشجيع القوى الكبرى على دعم مبادرات التهدئة، والتشديد على الحلول الدبلوماسيّة، وعلى ضرورة تجنيب اللبنانيين مأساة جديدة.
ولا يمكن بأيّ شكل من الاشكال اغفال محور اساسي للزيارة، يتعلق بالبعد الوجودي للمسيحيين في الشرق، خصوصاً في ظلّ الهجرة المتعاظمة التي تهدد الدور التاريخي للمسيحيين في لبنان. فالكنائس اللبنانية، ومعها الفاتيكان، تنظر بقلق بالغ إلى التراجع الديموغرافي، وإلى فقدان فئة الشباب خصوصاً، بسبب الأزمات الاقتصاديّة وتراجع الدولة. ولطالما شكّل لبنان نموذجاً فريداً للتعدديّة في الشرق الأوسط، والوجود المسيحي فيه ليس مجرد حضور ديني، بل ركيزة لتوازن سياسي وثقافي وحضاري. جاءت الزيارة كصرخة دولية تؤكد أن حماية المسيحيين في الشرق تمر حكماً عبر حماية لبنان نفسه، واستقراره، وصون صيغة العيش المشترك التي تميّزه.
أراد الفاتيكان إيصال رسالة واضحة: إذا خسر الشرق وجوده المسيحي، خسر أحد عناصر هويته التاريخية. وإذا خسر لبنان هذا التنوّع، خسر موقعه ودوره ورسالته. وأحد أهم أبعاد الزيارة كان رسالتها السياسية التي اراد البابا من خلالها التشديد على اهمية النهوض اللبناني من خلال المؤسسات وحماية الدستور وصيغة الطائف، وكلها امور من شأنها منع جرّ البلاد إلى محاور إقليميّة تزيد من عزلتها، ودعم الاجراءات المعلن عنها من قبل الحكومة، وخصوصاً مسالة حصر السلاح بيد الدولة على كافة الاراضي اللبنانيّة، وبالتالي ضرورة حماية الجيش اللبناني وتعزيز دوره، باعتباره المؤسسة الوطنيّة الوحيدة القادرة على منع التفكك.
واضافة الى ذلك، وفّرت الزيارة للبنان فرصة لإعادة إدراج قضيته على الأجندة الدولية، بعدما كانت دول العالم منشغلة بالحروب الكبرى والتوترات الإقليميّة. ولأنّ الفاتيكان لا يتحرك في الفراغ، تكتسب الزيارات البابويّة استراتيجيّة دبلوماسيّة واسعة تشارك فيها أوروبا والأمم المتحدة. لذلك، قد تفتح الزيارة باباً لمؤتمر دولي لدعم لبنان، أو على الأقل لإحياء خريطة طريق إصلاحيّة تُدار تحت مظلّة دوليّة تضمن حياد البلد واستقراره
انتهت زيارة البابا لاوون الرابع عشر، لكنها تركت أثراً أبعد من أيّامها القليلة، على الرغم من انها لم تجترح العجائب، لكنّها لم تكن زيارة رعويّة فقط، بل لحظة دوليّة نادرة أعادت التذكير بأنّ لبنان ليس دولة يمكن أن تُترك لقدرها، وأنّ استقراره هو جزء من استقرار الشرق كله. ومع أنّ التحدّيات التي سبقت الزيارة لا تزال قائمة، إلا أنّ البابا أعاد التأكيد على أنّ للبنان مكانة يجب أن تُحمى، وله رسالة يجب أن تستمر، وأن السلام ليس خياراً مثالياً، بل ضرورة وجودية.