التفاوض تحت النار… هل تكفي خطوة "التمثيل المدني" لمنع "الحرب الثانية"؟
صحيح أنّ المفاوضات بين لبنان وإسرائيل قائمة بشكل غير مباشر منذ ما قبل إبرام اتفاق وقف إطلاق النار الذي لم تلتزم به تل أبيب، وإن تكرّست بعده ما بات يُعرف بلجنة "الميكانيزم" التي كان يفترض أن تكون معنيّة بضمان وقف الأعمال العدائية، وصحيح أنّ محطات تفاوض عدّة سُجّلت تاريخيًا، ليس بين لبنان وإسرائيل فقط، بل حتى بين "حزب الله" وإسرائيل، إلا الأكيد أنّ تسمية ممثل مدني للانخراط في مثل هذه المفاوضات يمكن اعتباره "نقطة تحوّل".
فإعلان لبنان تسمية سفير لبنان الأسبق لدى الولايات المتحدة الأميركية سيمون كرم لترؤس وفد لبنان خلال اجتماعات لجنة "الميكانيزم"، بدا في لحظة سياسية معقّدة خطوة تتجاوز رمزيتها الشكلية إلى ما هو أبعد، حتى إن هناك من قرأه إشارة إلى استعداد رسمي للبحث في ملفات لطالما عُدّت خطوطًا حمراء، وإن حرص المعنيّون على رفض إعطاء الأمر أكثر ممّا يحتمل، ولا سيما أنّ المحادثات الحالية ليست "مفاوضات سلام" كما أكد رئيس الحكومة نواف سلام.
وإذا كانت هذه الخطوة جاءت في ظلّ تصاعد الضغوط الدولية على لبنان، التي وصلت حدّ "خنقه" مع التسريبات المتتالية عن جولة جديدة من الحرب الإسرائيلية وصفها الإعلام العبري بـ"الحتميّة"، فإنها جاءت أيضًا بعد سلسلة مبادرات أطلقها رئيس الجمهورية جوزاف عون، لإرساء إطار تفاوضي يمنع الانزلاق نحو مواجهة واسعة، لكنّ إسرائيل كانت إما تتجاهلها، وإما تردّ عليها بالنار، في خطوة عدّها كثيرون محاولة منها لرفع الأسقف وفرض الشروط.
ولعلّ موقف تل أبيب هنا أيضًا يبدو مثيرًا للجدل، إذ ذهبت إلى حدّ المبالغة في الإشادة بإيجابية المفاوضات، حتى إنّ رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بدا كمن يقفز خطوات دفعة واحدة، بحديثه عن الاتفاق على "بلورة أفكار لتعزيز تعاون اقتصادي محتمل بين إسرائيل ولبنان". لكن ما هي إلا ساعات حتى عاد الجيش الإسرائيلي لتكثيف غاراته على الجنوب اللبناني، وكأنّ شيئًا لم يكن، أو وفق بعض التفسيرات، فرضًا لمبدأ "التفاوض تحت النار" الذي يحبّذه نتنياهو نفسه.
وفيما تسعى إسرائيل لتكريس هذا المبدأ، الذي سبق أن اعتمدته أساسًا في قطاع غزة، وحتى في لبنان، من دون أن ينجح أحد من المعترضين عليه في منعه، محاولة من خلال ذلك فرض شروطها قبل التوصّل إلى أيّ تهدئة، يدفع المجتمع الدولي باتجاه تسوية تستند إلى مبدأ "منع الحرب أولًا"، لكن هل يكون إضفاء الطابع "المدني" على المفاوضات كافيًا لتحقيق ذلك، فيشكّل مدخلاً لمسار تفاوضي فعلي قادر على تجنّب الحرب، أم يكون مجرّد خطوة لشراء الوقت؟!.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ الخطوة اللبنانية تتجاوز مبدأ "الرمزية"، ولا سيما أنّها الأولى من نوعها منذ أربعة عقود، بل ترقى لمستوى محاولة إعادة تعريف مقاربة التفاوض مع إسرائيل، إذ يتيح وجود ممثل مدني في اللجنة نقل الملف من مستوى أمني صرف إلى إطار وطني أكثر مؤسّسية. إلا أنّ هذا التطور لا يمكن قراءته خارج الضغط الدولي المتزايد في الأشهر الأخيرة، ولا خارج إدراك لبنان أنّ المراوحة والشعارات لا تكفي لتفادي حرب يصفها البعض بالحتميّة.
من هنا، يرى البعض أنّ تسمية ممثل مدني تحمل في جانب منها اعترافًا ضمنيًا بالحاجة إلى توسيع دائرة القرار، لخلق غطاء سياسي يتيح مسارًا تفاوضيًا طويل النفس إذا تطلّب الأمر، علمًا أنّ الموقف الرسمي يبقى "مضبوطًا" بسقف وقف إطلاق النار، وهو ما أكّد عليه رئيس الجمهورية بقوله إنّ المطروح للنقاش حاليًا هو وقف الاعتداءات والانسحاب من النقاط المحتلة وترسيم الحدود وإعادة الأسرى، "وليس أكثر من ذلك".
مع ذلك، فإنّ إسرائيل تتعاطى مع الخطوة من زاوية مغايرة تمامًا، وهو ما تجلّى في إشادتها بما وصفته "إيجابية المفاوضات"، وما تلاها من تسريبات دخل على خطّها مكتب نتنياهو نفسه حول "تعاون اقتصادي" وغيره، ولكنه تجلى أيضا في عودته إلى التصعيد، بعد ساعات فقط على انتهاء الاجتماع الأول، في رسالة واضحة مفادها أنّ المفاوضات ليست بديلاً من الضغط العسكري، بل مكمّلة له في القاموس الإسرائيلي.
ولا يُعَدّ هذا التلازم بين "الاحتضان السياسي" و"الضربات الميدانية" جديدًا في الاستراتيجية الإسرائيلية، لكنه اليوم يكتسب معنى إضافيًا، عبر محاولة دفع لبنان نحو مواقع تفاوضية أكثر ضعفًا، علمًا أنّ موقف الحزب يزيد المشهد تعقيدًا، فهو لا يبدو مرتاحًا للمسار السياسي الجاري، بل إنّ أمينه العام الشيخ نعيم قاسم دعا الدولة في خطابه الأخير إلى التراجع عنه، وعدم تقديم المزيد من التنازلات المجانية لإسرائيل.
فمع أنّ الحزب يوافق على القناة التقنية عبر الميكانيزم كجزء من إدارة الاشتباك، إلا أنّه لا يريد توسيعها إلى مفاوضات سياسية من شأنها أن تضعه في مواجهة مباشرة مع الدولة اللبنانية أو مع المجتمع الدولي في ملفّات يعتبرها جزءًا من توازن الردع، وهو يرفض فتح أيّ ملفات جديدة للتفاوض قبل إلزام إسرائيل بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار أولاً، ولذلك فهو يعتبر ما أقدمت عليه الحكومة مخالفة لما كانت قد أعلنته سابقًا، وتنازلاً آخر توظّفه إسرائيل لصالحها.
لكن، على الرغم من "الحزم" الذي أبداه قاسم في مقاربته، وتحفّظه على الخطوة اللبنانية في الشكل والمضمون، ووصفها بـ"السقطة"، ثمّة من يستبعد أن يصل الأمر لحدّ الاعتراض الحقيقي، أو الخلاف الفعلي، فالحزب باقٍ "خلف الدولة"، وليس "أمامها"، طالما أنه لم يستعد عافيته بالكامل، بدليل مطالبته إسرائيل بالالتزام باتفاق وقف إطلاق النار بعد آلاف الخروقات والانتهاكات، بدل اعتباره "لاغيًا" كما كان يفعل في استحقاقات سابقة.
وبين هذا وذاك، يبقى الانطباع راسخًا بأنّ ظروف التسوية لم تنضج بعد، أو أنّها على الأقل تصطدم بوقائع ميدانية لا تتيح لها التقدّم، فإسرائيل لا تُبدي استعدادًا لمنح أي مكسب سياسي أو ميداني للبنان من دون "إثبات التزام"، فيما لا تستطيع الحكومة اللبنانية تقديم ما يفوق حدود التنسيق التقني في ظل الوقائع الداخلية المعروفة، فكيف إذا كان المطروح بمثابة "نزع السلاح بالقوة"، ما يمكن أن يقود إلى حرب طائفية ليست في صالح أحد.
هذا التعارض يجعل المسار التفاوضي هشًّا وغير قادر على إنتاج اختراق سريع، ويجعل خطوة التمثيل المدني أقرب إلى "إعلان نوايا" أكثر منها مدخلًا إلى تسوية. إلا أنّ لبنان الذي لم ينهض بعد من الحرب الدموية الأخيرة، لا يملك ترف المماطلة، ولا القدرة على مقاربة المفاوضات بوصفها مواجهة مفتوحة، فيما يدرك "حزب الله" الذي يشكو من "مؤامرة وجودية" عليه، أنّ الحرب المقبلة قد تكون تبعاتها "كارثية" ليس على الوطن فحسب، بل عليه في المقام الأول.
في المحصلة، تبدو خطوة التمثيل المدني في لجنة الميكانيزم أقرب إلى "نافذة صغيرة" فُتحت لمنع الحرب أكثر منها بابًا عريضًا لتسوية نهائية. فالاستعداد السياسي اللبناني محدود بسقوف داخلية واضحة، فيما إسرائيل تستخدم التفاوض لفرض وقائع لا للتنازل عنها. وبين هذين الحدّين، تبقى المفاوضات محاصرة بالتصعيد، وتبقى الأسئلة بلا أجوبة: هل يمكن لخطوة تقنية أن تتحوّل إلى مسار سياسي فعلي؟ وهل يستطيع لبنان بناء مظلّة تفاهمات داخلية تحميه في أي مفاوضات مقبلة، أم أنّ ما يجري الآن ليس سوى محاولة لشراء الوقت بانتظار اتضاح صورة الإقليم؟.