ثلاث بلدات لبنانية تحتل المركز الأول عالميًا بالإصابة بالسرطان!
ليس تفصيلاً أن يكون معدل الإصابة بالسرطان في ثلاث بلدات لبنانية، واقعة ضمن الحوض الأعلى لمجرى نهر الليطاني، وهي بر الياس وحوش الرافقة وتمنين الفوقا، أعلى من معدل الإصابة بالسرطان في أستراليا التي تحتل المرتبة الأولى عالميًا بالإصابة بالسرطان، وأعلى من المعدل العام للإصابة بالسرطان في لبنان. هذه الأرقام الصادمة تأتي ضمن دراسة أعدّتها مصلحة مياه الليطاني، وأظهرت وجود جميع المواد المسرطنة في مياه نهر الليطاني وفي حوضه، كما تبيّن وجود جميع العوامل المسببة لها، ما يؤكد وجود علاقة مباشرة بين تلوث حوض نهر الليطاني وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في المنطقة. بمعنى آخر، ربطت الدراسة بين ارتفاع عدد الإصابات بالسرطان في لبنان وبين تلوث المياه، وتمّ الاستناد إلى حالة البلدات البقاعية الثلاث كنموذج.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الملوثات المسرطنة تُلقى أو تتكوّن في المياه السطحية، أو في التربة ضمن الحوض، ثم تتسرب إلى المياه الجوفية، فتصل بشكل مباشر إلى منازل وأجسام سكان الحوض الأعلى للنهر. ويتم هذا التسرّب عبر ثلاث مسارات رئيسية: أولاً، من خلال رمي الملوثات مباشرة في حوض النهر؛ ثانيًا، عبر تصريف الملوثات في مياه النهر نفسها، ثم تسرب هذه المياه الملوثة إلى طبقات المياه الجوفية؛ وثالثًا، من خلال مخالفة القانون وريّ المزروعات والتربة بمياه الليطاني الملوثة، ما يؤدي تلقائيًا إلى تسرّبها إلى المياه الجوفية.
معدلات الإصابة بالسرطان في بلدات الحوض الأعلى لنهر الليطاني
أظهرت الدراسة أن هناك ارتفاعًا في معدلات الإصابة بالسرطان في لبنان، بنسبة تتراوح بين 10 إلى 30 بالمائة في السنوات الأخيرة، ويُعتبر سرطان الرئة من أهم الحالات المسجلة. وفقًا لإحصاءات عام 2018، تُعدّ أستراليا الدولة الأولى عالميًا في الإصابة بالسرطان، حيث يبلغ معدل الإصابة 468 لكل 100000 نسمة. ويحتل لبنان المرتبة الثامنة والأربعين عالميًا مع معدل 242.8 إصابة لكل 100000 نسمة. وبهدف الإضاءة على ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في الحوض الأعلى لنهر الليطاني خصوصًا، تم إعداد دراسة عام 2019 سُجلت فيها أعداد حالات السرطان في بعض بلدات الحوض الأعلى لنهر الليطاني، وكانت على الشكل التالي:
بلدة بر الياس: عدد السكان: 12185 نسمة، وعدد حالات السرطان: 600 حالة.
بلدة حوش الرافقة: عدد السكان: 1704 نسمة، وعدد حالات السرطان: 60 حالة.
بلدة تمنين التحتا: عدد السكان: 3863 نسمة، وعدد حالات السرطان: 40 حالة.
بالإضافة إلى معدلات عالية تم تسجيلها في كل من بلدات القرعون، المرج، المنصورة، غزة، حوش الحريمة، الروضة، الدلهمية والفرزل.
عند مقارنة المعدلات العالمية مع معدلات الإصابة بالسرطان في هذه البلدات اللبنانية الواقعة في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، يظهر الفرق الشاسع، حيث إنها تبلغ أضعاف المعدل الأعلى عالميًا، كما يوضّح الرسم البياني أدناه.
• تمّ تحويل أعداد حالات السرطان في كل بلدة إلى معدل لكل 100000 نسمة بهدف مقارنتها بالمعدلات الوطنية والعالمية التي تُحتسب بالطريقة نفسها. هذا لا يعني أن عدد سكان البلدات يبلغ 100 ألف، بل هو إجراء إحصائي معياري يُستخدم لتوحيد المقاييس وإتاحة المقارنة بين مناطق تختلف في عدد سكانها.
الأسباب المحتملة لارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في الحوض الأعلى لنهر الليطاني
هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان، ومن ضمنها الأسباب البيئية كتلوث الماء والهواء. عند التفكير في الأسباب الممكنة وراء الإصابات المرتفعة بالسرطان في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، لا يسعنا التفكير إلا بالمشكلة الأساسية التي يتعرض لها لبنان عمومًا وسكان حوض نهر الليطاني خصوصًا، ألا وهي تلوث نهر الليطاني وحوضه، حيث أصبح النهر مجرى للصرف الصناعي والصحي والزراعي، وأضحى ناقلاً للأوبئة والأمراض. يصيب هذا التلوث كل موارد المياه في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، حيث ثبُت تلوث المياه الجوفية والآبار والأراضي الزراعية. يؤكد هذا الاستنتاج دراسة حديثة نُشرت في مجلة السرطان (Journal Cancer)، وكانت خلاصتها أن “البلدان ذات معدلات التلوث الأعلى، بما في ذلك تلوث المياه، لديها معدلات أعلى من السرطان”. ويُعتبر الصرف الصحي والصرف الصناعي للمؤسسات الصناعية الواقعة في حوض نهر الليطاني السبب الأول المسؤول عن وجود المواد المسرطنة في النهر وحوضه.
إن مسببات التلوث في الحوض الأعلى لنهر الليطاني هي التالية:
• التصريف المباشر أو غير المباشر لمياه الصرف الصحي في النهر وروافده.
• النفايات السائلة الصناعية غير المعالجة أو المعالجة بشكل غير كافٍ.
• الجريان السطحي الزراعي.
• النفايات الصلبة والمكبات العشوائية.
• مخلفات المزارع والمسالخ.
• مخلفات معاصر الزيتون.
• النفايات الطبية.
• مخيمات اللاجئين السوريين وما ينتج عنها من صرف صحي يُلقى مباشرة في نهر الليطاني.
• مخلفات المرامل والكسارات.
واستشهدت الدراسة الصادرة عن مصلحة نهر الليطاني بالعديد من الدراسات العلمية التي تُظهر ارتباط المياه الملوثة بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان حول العالم. إذ ينتج عن مسببات التلوث العديد من المواد المصنفة كمواد مسرطنة وفقًا لأحدث الدراسات العلمية، منها دراسة علمية حديثة أُجريت في ولاية أريزونا الأميركية بين عامي 2014 و2019 حول تلوث مياه الشرب وتأثيرها على السرطان. وقامت الدراسة بتحليل بيانات مفصلة عن مستويات تسعة ملوثات كيميائية في مياه الشرب، ومقارنتها بمعدلات الإصابة بأنواع مختلفة من السرطان، وتوصلت إلى نتائج بارزة، أهمها:
• سرطان المثانة: ارتبط بارتفاع نسبة الكروم في مياه الشرب.
• سرطان البنكرياس: كان النوع الأكثر ارتباطًا بعدة ملوثات، حيث أظهر ارتباطًا إيجابيًا مع ستة ملوثات رئيسية، هي:
o النترات (Nitrates)
o النتريت (Nitrites)
o نواتج التطهير الكلورينية (TTHMs)
o مركبات HAA5 وHAA9
o الكروم (Chromium)
• اللوكيميا: ارتبطت بشكل ملحوظ بنواتج التطهير (DBPs) مثل HAA5 وTTHMs، وهو ما يتفق مع ما ورد في أبحاث سابقة حول مخاطر هذه المواد الناتجة عن معالجة المياه بالكلور.
الخطة الوطنية لمكافحة السرطان 2023-2028
مقابل هذا الواقع السيئ الذي تعيشه بلدات الحوض الأعلى لنهر الليطاني، تم وضع الخطة الوطنية لمكافحة السرطان 2023-2028، وتضمنت نقاطًا واقتراحات للسيطرة على تلوث الهواء والمبيدات الحشرية والملوثات البيئية الأخرى عبر خطوات عدة، أولها رفع مستوى الوعي العام حول دور تلوث الهواء في الإصابة بالسرطان، وثانيها رفع مستوى الوعي حول مخاطر التعرض لمبيدات الآفات والأسبستوس، وثالثها التنسيق مع وزارة البيئة للحد من تلوث الهواء الناتج عن المولدات الكهربائية والمصانع، ورابعها التأكد من تطبيق لائحة استخدام المبيدات بالتعاون مع وزارة الزراعة ووزارة البيئة.
وخلصت الخطة إلى أن من النقاط التي يجب الإضاءة عليها أكثر، أن المخلفات الصناعية ومخلفات الصرف الصحي من العوامل المهمة التي يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالسرطان عند وصولها إلى المياه وتلويثها، كما هو الحال مع النفايات الصناعية والصرف الصحي ومختلف أنواع الملوثات التي تصل إلى حوض نهر الليطاني، النهر الأكبر في لبنان، إضافة إلى ضرورة مراقبة وتحليل المياه الجوفية لتجنب وصول المياه الملوثة إلى المنازل الواقعة في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، ما يحدّ من المخاطر الصحية التي تواجه السكان