تحذيرات من حرب إسرائيلية ورسائل إلى إيران... أي سياسة خارجية يرسمها لبنان؟
في ذروة المخاوف من توسّع الحرب جنوبًا، خرج وزير الخارجية والمغتربين يوسف رجي ليقرع جرس الإنذار، كاشفًا عن تحذيراتٍ تلقّاها لبنان من "جهات عربية ودولية" لم يسمّها، بأن إسرائيل تحضّر لعملية عسكرية واسعة، ومعلنًا أنّ الدبلوماسية اللبنانية تتحرّك لمحاولة "تحييد لبنان ومرافقه" عن أي ضربة إسرائيلية، بالتوازي مع اجتماعات لجنة "الميكانيزم" في الناقورة، التي يُقال إنّها دخلت مرحلة جديدة عنوانها التفاوض، ولو كان "تحت النار" بالمفهوم الإسرائيلي.
لم يكتفِ وزير الخارجية بتوصيف خطر الحرب أو الدفاع عن خيار اجتماعات "الميكانيزم"، بل ذهب أبعد إلى حدود مساءلة جوهر المعادلة التي حكمت البلد منذ ما بعد عام 2006، والتي قامت على ازدواجية بين الدولة و"حزب الله"، وعلى علاقة خاصة مع إيران، فوجه رسائل قاسية إليهما معًا، واضعًا سلاح الحزب في خانة "عدم الفعالية" ومعتبرًا الدور الإيراني "سلبيًا جدًا" ومصدرًا لعدم الاستقرار، وفق قوله.
جاءت مواقف وزير الخارجية هذه بعد يوم على "اشتباك دبلوماسي" خاضه مع نظيره الإيراني عباس عراقجي، يكاد يكون غير مألوف على مستوى العلاقات بين دولتين لا تربطهما عداوة، حين أعلن رجي اعتذاره عن عدم قبوله دعوته لزيارة طهران، مقابل الانفتاح على لقائه "في دولة ثالثة محايدة يتم التوافق عليها"، وهو ما ردّ عليه عراقجي بالقول إنّ وزراء خارجية الدول التي تربطها علاقات دبلوماسية كاملة لا يحتاجون إلى مكان محايد للاجتماع.
إزاء ما تقدّم، يطرح السؤال نفسه: هل يتحدّث الوزير يوسف رجي باسم الدولة اللبنانية وسياساتها الجديدة، وربما يوجّه رسائل "طمأنة" إلى المجتمع الدولي قوامها أنّ "مسار" سحب السلاح قد انطلق، أم يعبّر عن قناعاته وخلفيته السياسية فقط، وهو المحسوب على "القوات اللبنانية" التي تتصدّر المواجهة الداخلية مع "حزب الله"، ومن خلفه إيران، اليوم؟
بالعودة إلى تصريحات وزير الخارجية لـ"الجزيرة" بعد ظهر الجمعة، كان لافتًا حرصه على رسم حدود واضحة لدور لجنة "الميكانيزم". فهو شدّد على أنّ اجتماعاتها لا تعني أنّ لبنان "إزاء مفاوضات تقليدية مع إسرائيل"، بل إنّ الهدف هو العودة إلى اتفاقية الهدنة، مؤكّدًا أنّ "معاهدة السلام بعيدة حاليًا"، بما يعني أنّ السقف السياسي الرسمي ما زال يقف عند حدود إدارة وقف الأعمال الحربية، وليس الذهاب إلى تسوية نهائية على طريقة اتفاقيات السلام التي عرفتها المنطقة، والتي لا يخفي الأميركيون رغبتهم بضمّ المزيد من الدول إليها، ومنها لبنان وسوريا.
ويتقاطع هذا التوصيف مع ما تنقله تقارير دبلوماسية عن تحوّل في دور ووظيفة "الميكانيزم"؛ فبعدما كانت، على امتداد الأشهر الماضية، عبارة عن آلية تقنية لضبط وقف إطلاق النار، وهو ما عجزت عمليًا عن تحقيقه، تحولت إلى "عدّ الخروق" ليس أكثر، ها هي تُقدَّم اليوم كإطار تنسيقي يُستخدم لإدارة النزاع في الجنوب، مع إشراك أطراف دولية فاعلة، وبينها الولايات المتحدة وفرنسا، وتطعيم الوفد اللبناني بشخصية مدنية مثل السفير السابق سيمون كرم.
بيد أنّ أهمّ ما قاله الوزير رجي يبقى كشفه النقاب عن تحذيرات تلقّتها بيروت من جهات عربية ودولية حول تحضيرات إسرائيلية لعملية عسكرية واسعة. وهو إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الأمر لم يعد محصورًا بتسريبات إعلامية أو تصريحات سياسية تندرج في خانة "الحرب النفسية"، طالما أنّ لبنان الرسمي يتعامل مع التهديد كاحتمال جدّي، ويسعى لإقناع المجتمع الدولي بأنّ الدولة تقوم بما عليها من أجل تثبيت هدنة جديدة تتيح استكمال المسار.
لكنّ هذا المسار، بحكم طبيعته، لا ينفصل عن سؤال داخلي أعمق: أيّ موقع لسلاح "حزب الله" في المعادلة الجديدة التي تتشكّل حول الجنوب، ولا سيما أنّ الحزب كان قد أعلن رفضه المطلق لنزع السلاح، بوصفه نقطة قوة للبنان، مستندًا إلى قراءته للقرار 1701 الذي لا يشمل سوى المنطقة الواقعة جنوب الليطاني؟
منذ وصوله إلى منصبه، يقدّم الوزير رجّي توصيفًا حادًا لسلاح الحزب، فهو يرى أنّ هذا السلاح "أثبت عدم فعاليته في إسناد غزة والدفاع عن لبنان"، بل يعتبر أنه هو الذي "جلب الاحتلال الإسرائيلي"، ويذهب إلى حدّ القول إنّ نزع سلاح الحزب "ضرورة وطنية"، مشيرًا إلى أنّ الدولة اللبنانية تتحاور معه لإقناعه بتسليم هذا السلاح، إلا أنه يعرب عن اعتقاده بأنّ ذلك لن يكون واردًا "من دون موافقة إيران".
هذه العبارات تحمل أكثر من مستوى. فعلى المستوى الأول، تضع سلاح "حزب الله" موضع مساءلة صريحة من موقع رسمي، لا من موقع حزب معارض، في سابقة من نوعها بهذا الوضوح، بمعزل عن الخلفيات السياسية للوزير المعني. وعلى المستوى الثاني، تعترف هذه المقاربة، عمليًا، بحدود القدرة الداخلية للدولة على فرض قرارها؛ فحين يقول وزير الخارجية إنّ الحزب لا يسلّم السلاح من دون قرار إيراني، فهو يقرّ بأنّ قرار الحرب والسلم ليس محصورًا بالدولة اللبنانية.
مع ذلك، لا تكتمل القراءة "الواقعية" لكلام الوزير من دون التوقّف عند انتمائه السياسي. فالرجل محسوب على "القوات اللبنانية" التي تعدّ نفسها "رأس حربة" المواجهة مع إيران، وهذه النقطة لا تشكّل تفصيلاً في المشهد، ولو أنّ موقعه كوزير خارجية يضفي على كلامه، المتقاطع مع خطاب "القوات" التقليدي، طابعًا مختلفًا، إذ يظهر أمام الرأي العام الخارجي على أنّه تعبير عن سياسة رسمية، لا عن موقف حزبي صرف.
لكنّ الأمر لا يقف عند حدود انتقاد "حزب الله"، إذ إنّ رسائل رجي "القاسية" طالت أيضًا إيران بشكل مباشر. فإلى جانب القول إنّ تسليم سلاح الحزب مرتبط بقرار إيراني، يذهب الوزير أبعد في توصيف الدور الإيراني، معتبرًا أنّه "سلبي جدًا"، ومعلنًا أنّ لدى لبنان "مشكلة مع إيران، لكنّه منفتح على الحوار معها شرط أن تتوقف عن التدخّل في شؤونه الداخلية، وأن توقف تمويل ما وصفه بـ"التنظيم غير الشرعي".
هذا الموقف يتقاطع مع السجال القائم بين رجي ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي أعلن أنّه سيزور بيروت بعد تلقيه دعوة رسمية، رغم أنّ رجي كان قد رفض في وقت سابق زيارة طهران في "الظروف الحالية"، مفضّلًا لقاء في دولة ثالثة "محايدة"، وإن أكّد انفتاحه على الحوار مع إيران تحت سقف احترام السيادة. وهنا، تظهر ملامح سياسة مركّبة: من جهة، يرفض وزير الخارجية أن تُدار العلاقة مع إيران بمنطق الوصاية أو التسليم، ويتبنّى خطابًا حادًا حيال سلاح "حزب الله" ودور طهران، ومن جهة ثانية، لا يقطع خط التواصل، بل يترك باب الحوار مفتوحًا لكن بشروط.
إذا جُمعت هذه الخطوط الثلاثة معًا (تحذيرات الحرب والرهان على "الميكانيزم" والهدنة، والتشكيك بجدوى سلاح حزب الله وحدود قدرة الدولة على نزعه، والاشتباك السياسي-الدبلوماسي مع إيران)، يتّضح أنّ يوسف رجي يرسم، بقصد أو بدونه، صورة مختلفة للسياسة الخارجية اللبنانية عمّا اعتدناه في السنوات الماضية، صورة ربما تثير الانقسام الداخلي بالقدر نفسه الذي يثير فيه الوزير الجدل بين اللبنانيين.
يبقى أنّ هذه الصورة نفسها تحتمل قراءتين: الأولى، أنّ الدولة اللبنانية تحاول عبر وزيرها أن توجّه رسالة واضحة إلى العواصم العربية والدولية مفادها أنّها تسعى إلى استعادة جزء من قرارها في ملفّي الحرب والسلم والعلاقة مع إيران، حتى لو كان ميزان القوى الداخلي لا يسمح لها بتحقيق كل ما تطرحه. والثانية، أنّ ما نسمعه هو في جانب منه خطاب قوّة سياسية ممثّلة في الحكومة، توظّف موقع وزير الخارجية لإيصال رسائلها، التي قد تلتقي أو لا تلتقي مع موقف الحكومة بالمطلق.
وبين هاتين القراءتين، سيبقى معيار الحكم في الأشهر المقبلة مرتبطًا بما ستؤول إليه مفاوضات "الميكانيزم" واحتمالات العملية العسكرية الإسرائيلية، وبما إذا كانت اللغة العالية النبرة تجاه "حزب الله" وإيران ستُترجَم خطوات عملية، أم أنّها ستبقى في حدود رسم صورة جديدة للبنان في الخارج، من دون أن يتغيّر الكثير في موازين الداخل.