اخبار لبنان اخبار صيدا اعلانات منوعات عربي ودولي صور وفيديو
آخر الأخبار

بين "الإنصاف" و"الاستنزاف": قانون الفجوة المالية أمام اختبار العدالة وقابلية التطبيق

صيدا اون لاين

من بوابة ما سُمّي بمشروع "​قانون معالجة الفجوة المالية​"، يعود ملف "استرداد ​الودائع​" إلى صدارة الاهتمام في الداخل ال​لبنان​ي، وهو الذي لم يغب عن بالهم طيلة السنوات الماضية، بوصفه "أمّ" أزمات الانهيار، خصوصًا بعدما بات شرطًا إلزاميًا لأي محاولة جدية لإعادة بناء الثقة بالنظام المالي، وإعادة إطلاق التفاوض مع ​صندوق النقد​، وفتح الباب أمام ​إعادة هيكلة المصارف​ والدولة معًا.


وفي وقتٍ يقدم مشروع القانون الذي باشرت الحكومة بدرسه، يقدّم نفسه كأول محاولة تشريعية متكاملة لوضع قواعد "من يدفع وكيف"، بعد ست سنوات من ترك الخسائر تتراكم في الظل، وتُدار بتعاميم وإجراءات جزئية، يرى كثيرون أنه، بخلاف الانطباع الأولي بأن القانون "قني"، يتبيّن سريعًا أنه نصٌّ سياسي بامتياز لأنه يعيد توزيع الخسائر بين الدولة و​مصرف لبنان​ والمصارف و​المودعين​، ويُعيد تعريف حدود المسؤوليات القانونية والأخلاقية لكل طرف.


باختصار، هو ترجمة عملية لسؤال من يدفع ثمن الانهيار، وكيف تُوزَّع الخسائر بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف والمودعين. لذلك، تبدو المعركة حوله معركة "عقيدة" لا معركة أرقام فقط، وبالتالي يصبح من الطبيعي أن يواجه اعتراضات متزامنة من جهات متناقضة المصالح، بما يكشف أن جوهر الصراع ليس على "الهدف"، بل على المسؤولبة.

في قلب المشهد، يقف المودع اللبناني أمام مفارقة جارحة: الدولة تقول إنها تضع أول مسار قانوني متكامل لإعادة الحقوق تدريجيًا، بينما يردّ كثيرون بأنّ النص قد يتحوّل إلى هندسة جديدة لتأجيل الحقوق وتدوير المسؤوليات، وربما نقل عبء الانهيار إلى مستقبلٍ مليء بالالتزامات المؤجّلة. فما الذي يقترحه القانون، وهل هو قابل للتطبيق فعليًا؟

قبل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من التوقف قليلاً عند فحوى المشروع، الذي يضع سلّمًا واضحًا للتعامل مع الودائع، تقوم قاعدته على الفصل بين شريحتين أساسيتين: صغار المودعين (تحت سقف 100 ألف دولار)، بحيث تُسدّد ودائعهم على أربع سنوات بأقساط شهرية أو ربع سنوية، وأولئك الذين تتجاوز ودائعهم 100 ألف دولار، حيث تُرَدّ عبر "أوراق مالية قابلة للتداول ومدعومة بأصول" يصدرها مصرف لبنان، مع حد أدنى للدفع السنوي لا يقل عن 2%، وبآجال تتدرّج بحسب الحجم.
وفي محاولة لمنح هذه الأوراق "ضمانة"، يربط المشروع خدمة هذه الالتزامات بإيرادات وعوائد أصول يملكها مصرف لبنان وبأي عائدات محتملة من بيع أصول، مع الإشارة إلى المعادن الثمينة كأحد مصادر الدخل الممكنة. وفي نقطة شديدة الدلالة، يفرض المشروع تقييمًا دوليًا لأصول مصرف لبنان خلال شهر من إقرار القانون لتحديد حجم الفجوة بدقّة، بالتوازي مع مراجعات مطلوبة من المصارف (جودة الأصول/إعادة الرسملة).

الأهم سياسيًا هنا أن المشروع لا يقدّم السداد كالتزام يقع على جهة واحدة: فالمصارف تتحمّل 20% من مسؤولية مدفوعات الأوراق المدعومة بالأصول، كما يشترك مصرف لبنان والمصارف في تمويل دفعات صغار المودعين على ألا تتجاوز حصة مصرف لبنان 60%. ويتضمن المشروع بنودًا تتصل بما يُسمّى "التدقيق الأخلاقي" للأموال، منها على سبيل المثال فرض إعادة بعض التحويلات الكبيرة التي خرجت قبيل الانهيار أو فرض ضريبة عليها (ذُكر سقف 30% في تغطيات دولية)، وفتح الباب لشطب ودائع مرتبطة بمسارات غير سليمة.

استنادًا إلى ما تقدّم، تبدو الخريطة "متماسكة" إذًا وفق هذه الخطة، أقلّه على الورق: جدول زمني، أدوات مالية، تدقيق دولي، وربط بالمعايير المطلوبة خارجيًا. لكن أبعد الورق، من يملك القدرة على تنفيذ هذا الوعد؟

قد لا تكون الإجابة متوافرة، خصوصًا بعد الكلام الذي خرج من حاكم مصرف لبنان ​كريم سعيد​، الذي لم يذهب إلى نسفٍ مباشر بقدر ما طالب بتوصية مكتوبة، بـ"مراجعة دقيقة وشاملة وبنّاءة" قبل إحالة المشروع إلى البرلمان، معتبرًا أن الجدول الزمني المقترح للجزء النقدي "طموح إلى حد ما. ومثل هذه الملاحظة ليست تقنية فقط بطبيعة الحال، بل هي رسالة تعكس خوف المصرف المركزي من أن يتحول إلى "ضامن أخير" لوعود أكبر من قدرته على التمويل المنتظم، في ظل نزاعات مفتوحة حول تقييم الأصول وكيفية تسييلها.
أما ​جمعية مصارف لبنان​، فتذهب أبعد من ذلك، إذ تعتبر أن الدولة "تهرب من مسؤولياتها" وتُلقي العبء على المصارف، بما يهدد بتصفية القطاع أو إطالة الركود، وتشكّك في قابلية التنفيذ وفي العدالة بين المودعين. وترى الجمعية أن المشروع لا يراعي القدرات الفعلية للمصارف على الإيفاء، ويضعها في مواجهة مباشرة مع المودعين، بينما تستمر الدولة في التهرب من التزاماتها تجاه مصرف لبنان.

في المقابل، لا تبدو مجموعات واسعة من المودعين مطمئنة تلقائيًا حتى لو "وعدهم" القانون بسقف 100 ألف دولار واستردادٍ تدريجي، لأن التجربة مع التعاميم والوعود منذ 2019 جعلت معيار الثقة ليس النص وحده، بل القدرة على الدفع وضمانات عدم التمييز، والأهم: مسار محاسبة فعلي يفرّق بين خسارة ناتجة عن مخاطرة، وخسارة ناتجة عن مخالفات أو تهريب أو تحويل النفوذ إلى أرباح.

هنا يلتقي كثيرون مع مقاربة ترى أن إصلاح الإطار القانوني لإعادة هيكلة المصارف يجب أن يسير بالتوازي مع قانون الفجوة، وإلا يصبح الأول غطاءً للثاني أو العكس. لكن بمعزل عن كلّ ذلك، يبقى السؤال المركزي: متى يصبح وعد الودائع التزامًا قابلاً للصرف؟.

يتحدّث العارفون في هذا السياق عن ثلاثة شروط تكاد تكون حاسمة، وهي ​التدقيق الدولي​ تحديد لفجوة بالأرقام لا بالشعارات، لأن أي نقاش عن السداد من دون أرقام موحدة سيبقى صراع روايات، وثانيًا إعادة رسملة المصارف وفرز القابل للحياة لأن تحميل القطاع التزامات طويلة من دون إعادة تكوين رساميله يعني أن السداد سيبقى على الورق. أما الشرط الثالث فيكمن في التوصل إلى اتفاق جدّي حول الدور "العملي" للدولة وسط كلّ ذلك.

هل يعني أنّ القانون سينفذ بمجرد توافر هذه الشروط الثلاثة؟ كل الاحتمالات واردة، ولو أن سيناريو التعطيل يبقى الطاغي، فقانون الفجوة المالية، كما يظهر من الاشتباك حوله، ليس "قانون ردّ ودائع" بالمعنى المباشر، بل محاولة متأخرة لوضع نظامٍ لتوزيع الخسائر تحت سقف السياسة والقانون معًا.
بكلام آخر، هو ليس سؤال "متى نسترد الودائع؟" فقط، بل سؤال "كيف نعيد تعريف الدولة والقطاع المالي بعد 2019؟". فإذا نجح لبنان في تحويل هذا القانون إلى مسارٍ قابل للتطبيق، بتدقيقٍ صارم، وفرزٍ مصرفي، ومحاسبةٍ واقعية—قد يكون 2026 بداية “نظام مالي جديد”. وإذا فشل، سيُضاف إلى سلسلة قوانين معلّقة: تُستخدم سياسيًا، وتنهك اجتماعيًا، وتبقي المودع رهينة "وعدٍ قانوني" لا يملك ثمنه.

تم نسخ الرابط