اخبار لبنان اخبار صيدا اعلانات منوعات عربي ودولي صور وفيديو
آخر الأخبار

بين طمأنة الدولة ونار الميدان... أي ميزان يحكم المرحلة المقبلة في لبنان؟

صيدا اون لاين

بينما كانت الدولة ال​لبنان​ية تحاول، في خطابها السياسي، تثبيت منسوب من الطمأنينة مع اقتراب نهاية العام، وبالتالي نهاية ما سُمّيت المهلة الأميركية ال​إسرائيل​ية للبنان حتى يبدأ إجراءات ملموسة لسحب سلاح "​حزب الله​"، عاد الميدان ليفرض إيقاعه بقوة، مع خروقات إسرائيلية جديدة طالت الجنوب والبقاع بسلسلة غارات مكثّفة ومتزامنة، مرفقة برسائل واضحة عن جهوزية لتوسيع العمليات عند الحاجة.


قد لا يكون الأمر جديدًا، فإسرائيل لم تتوقف عن خرق اتفاق ​وقف إطلاق النار​ يومًا، منذ التوقيع عليه، بل إنّ التزامها به كان الاستثناء الذي لم يحصل، إلا أنّ توقيت هذه الهجمات هو الذي شكّل العلامة الفارقة وجعلها بمثابة "رسالة" إلى الدولة اللبنانية بشكل عام، إذ جاءت بعد ساعات فقط على خطاب "تطمين وتهدئة" انتهجه الرئيس ​جوزاف عون​، ربما استمدّه من روح الأعياد، التي يفترض أن تخفّف منسوب القلق.


فخلال زيارته إلى بكركي في سياق التقليد البروتوكولي السنوي في عيد الميلاد، خرج عون برسالة تهدئة محسوبة: "شبح الحرب ابتعد، والأمور تتجه نحو الإيجابية"، مشدّدًا في الوقت نفسه على أنّه "قرار حصر السلاح بيد الدولة اتُّخذ، والتطبيق وفقًا للظروف"، ولعلّ عون تعمّد أن يطلق مثل هذا الكلام من بكركي لما تنطوي عليه من رمزية دينية وسياسية، خصوصًا على مستوى الصراع مع الاحتلال ومع السلاح في آنٍ واحد.

لكن ما هي إلا ساعات حتى ردّت إسرائيل بسلسلة غارات استهدفت مناطق عدّة، في سلوكٍ اعتبره كثيرون "ردًا آخر بالنار" على كلام الرئيس، كما دأب قادة تل أبيب سابقًا بعد دعواته المتكرّرة للتفاوض، واستغلّه البعض الآخر للتصويب على الرئيس الذي يبثّ "تفاؤلاً" غير واقعي. إلا أنّ هذه المفارقة لا تعكس تناقضًا بقدر ما تكشف جوهر المرحلة: لبنان يعيش حربًا قائمة فعلًا، لكن الصراع الحقيقي يدور حول منع تحوّلها إلى حرب شاملة.

بمعنى آخر، فإنّ المشكلة ليست في لغة التهدئة بحدّ ذاتها، ولا في تحميل الرئيس ما لا يقصده. فمن الواضح أن مقصود عون ليس إنكار الحرب القائمة أصلًا، بل الإشارة إلى خطر "الحرب الأكبر" التي تُهدَّد بها البلاد، بما يشبه تلك التي عرفها اللبنانيون عام 2024 حين كان القصف شبه متواصل، وكانت الحدود الجنوبية تتحول إلى جبهة يومية مفتوحة على كل الاحتمالات، فضلاً عن العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية.
التحدّي، إذًا، ليس في النوايا، بل في الفجوة بين "خطاب الدولة" و"وقائع الميدان"، فإذا كانت وظيفة الطمأنة مشروعة من أجل منع أيّ ذعر جماعي، إلا أنّها تصطدم بواقع ميداني معقّد، حيث تتصرف إسرائيل منذ أسابيع، بل منذ توقيعها على اتفاق وقف إطلاق النار، على قاعدة "حرية الحركة" التي كرّستها لنفسها، بغياب أيّ "رادع"، وفي ظلّ توازنات إقليمية تعتقد تل أبيب أنها لا تزال مفتوحة على احتمالات متعددة.

صحيح أنّ الضربات لا تهدف بالضرورة إلى إشعال حرب شاملة، تلوّح بها إسرائيل منذ أسابيع، فتنجح في رفع سقفها التفاوضي، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أن وقف النار القائم هو وقف هش، قابل للاهتزاز في أي لحظة. هنا تحديدًا يصبح كلام عون من بكركي مزدوج المعنى، فهو محاولة لخفض السقف الداخلي ومنع الذعر الجماعي في نهاية عامٍ مُثقل. وهو أيضًا إعلان سياسي عن رغبة الدولة في أن تقول للداخل والخارج إن لبنان لن يُدار بمنطق "الجبهة" وحدها.

هذا الميزان يظهر بوضوح في ملف حصرية السلاح، الذي عاد إلى الواجهة بعبارات دقيقة ومدروسة. فالحديث عن أن القرار "متّخذ"، لكن التنفيذ "وفق الظروف"، يعكس إدراكًا رسميًا لحجم التعقيد القائم. الدولة تقول ما يجب أن يُقال سياسيًا، لكنها تعترف ضمنيًا بأن ميزان القوى، داخليًا وإقليميًا، لا يسمح بتحويل الشعار إلى إجراء فوري.

لكن هنا أيضًا، يصبح الخطر في أن تتحوّل "الظروف" إلى عنوان دائم للتأجيل، فيما يستخدم الطرف الآخر استمرار الضربات كوسيلة ضغط لإبقاء الملف مفتوحًا. وبهذا المعنى، تصبح عبارة "التطبيق وفقًا للظروف" هي العقدة، لا الجملة المطمئنة عن "ابتعاد شبح الحرب"، لأن “الظروف” في لبنان ليست تفصيلًا إداريًا، بل اسمٌ آخر للتوازنات إن صح التعبير، والتبرير الدائم لكل مماطلة وتسويف وتردّد.
ولأن لبنان ليس جزيرة، فإن كل ذلك يتقاطع مع روزنامة إقليمية تُعاد هندستها، فيما لا يبدو لبنان في صدارة أي سلّة حلول سريعة، وهو ما تجلى بوضوح في التسريبات حول اللقاء المرتقب بين الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ ورئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتنياهو​، حيث ظهر أنّ لبنان يُدفَع إلى خانة "الاحتواء" لا "الحلّ"، أي منع الانفجار الكبير، والإبقاء على مستوى ضغط يُتيح فرض شروط أمنية وسياسية بالتدريج.

إذًا، ما الميزان الذي سيحكم المرحلة المقبلة؟ بالتأكيد، ليس ميزان "لا حرب ولا سلام" بمعناه الكسول؛ لأن واقع اليوم يقول إنّ الحرب قائمة أساسًا بدليل الاعتداءات الإسرائيلية اليوم، مع وجود بطبيعة الحال بالتأكيد بين بين حربٍ تُدار بمنطق الاستنزاف والضغط، وبين حربٍ شاملة تُكسر فيها القواعد دفعة واحدة. وهنا يُفهم كلام عون: محاولة لتثبيت فكرة أن لبنان، كدولة، يسعى لمنع الانزلاق إلى السيناريو الأوسع، باستخدامه الدبلوماسية وتوازنات الداخل.

غير أن الطمأنة، كي لا تتحول إلى عبءٍ على أصحابها، تحتاج إلى ترجمة عملية على ثلاثة مسارات متزامنة، أولها، مسار سياسي داخلي يُعيد تنظيم الخلاف حول السلاح، وثانيها مسار أمني-تقني يرتبط بقدرة الجيش والدولة على فرض "حد أدنى" من الضبط، ولو تدريجيًا، في جنوب الليطاني وما بعده، ضمن آلية واضحة تمنع إسرائيل من استخدام حجة "التهديد المستمر" لتوسيع الضربات، وثالثها مسار اقتصادي-اجتماعي لأنه الأكثر تفجيرًا للداخل.

وبين هذه المسارات الثلاثة، يبقى الأخطر حتى من احتمال توسّع الحرب، هو الاعتياد على إيقاعها. فحين تتحوّل الخروقات إلى خبر يومي، والطمأنة إلى ردّ فعل تلقائي، يكون البلد قد دخل مرحلة التكيّف مع الخطر، لا مواجهته سياسيًا. وهذا التكيّف، مهما بدا مريحًا على المدى القصير، يحمل في طيّاته استنزافًا طويل الأمد للدولة ولمفهوم القرار السيادي نفسه.
في النتيجة، تبدو المرحلة المقبلة في لبنان محكومة بـ"ميزان" يتشكل من تداخل ثلاثة عوامل: سقف إسرائيل في استخدام القوة، قدرة الدولة على بناء مسار داخلي قابل للحياة نحو السيادة من دون تفجير البلد، وموقع لبنان الحقيقي في أي تفاهمات إقليمية مقبلة. وفي انتظار أن تتضح ملامح ذلك، يبقى لبنان عمليًا في قلب حربٍ قائمة، يحاول أن يمنع اتساعها… وأن يمنع، في الوقت نفسه، أن تتحول الطمأنة إلى وعدٍ أكبر من قدرة الدولة على الوفاء به.

تم نسخ الرابط