إعلان المجاعة في غزّة… إسرائيل في مواجهة جريمة حرب مثبتة

أعلنت الأمم المتحدة أمس أنّ غزة دخلت رسمياً مرحلة المجاعة، في خطوة وضعت الحرب كلّها في إطار جديد يتجاوز وصف الكارثة الإنسانية. فالتقرير لم يقتصر على أرقام الجوع والحرمان، بل صاغ توصيفاً قانونياً يضرب شرعية الاحتلال في العمق، ويضعه أمام الإدانة باستخدام التجويع كسلاح حرب، بما يفتح الباب لمساءلة قد تطال قادته السياسيين والعسكريين، ويثير سؤالاً حول قدرة المجتمع الدولي على فرض قواعده حين يكون المُدان هو إسرائيل.
الاحتلال حاول سريعاً الالتفاف على التقرير واعتباره مجرّد دعاية سياسية، لكنه واجه خطاباً مضاداً من داخل الأمم المتحدة نفسها، يؤكد أنّ مسؤولية إيصال الغذاء والدواء إلى السكان تقع حصراً على عاتقه. وعند هذه النقطة لم يعد الإنكار مجدياً، فالمجاعة لم تُسجَّل كادعاء سياسي، بل وُثّقت وفق معايير دولية صارمة تُجرّد الاحتلال من ذريعته المعتادة.
التبعات القانونية لهذا التوصيف شديدة الخطورة، إذ يعني أنّ الشروط التي ينصّ عليها القانون الدولي لتعريف المجاعة قد تحققت بالكامل، وأن استخدام الجوع كوسيلة ضغط لم يعد اتهاماً بل جريمة مثبتة. وبذلك تنتقل القضية إلى مستوى آخر: كل منع متعمّد لدخول المساعدات، وكل استهداف للبنى الأساسية التي تتيح للمدنيين البقاء على قيد الحياة، يصبح انتهاكاً صريحاً يرقى إلى جريمة حرب.
هذا التحول، وفق مصادر مطلعة، يفتح الباب أمام آليات ملاحقة لا تتوقف عند حدود الدولة. فالمسؤولية قد تطال السياسي الذي يقرّر السياسات، والعسكري الذي ينفذها أو يغض الطرف عنها، وحتى الأفراد على الأرض الذين يعيقون مرور المساعدات. وبذلك، يصبح الباب مفتوحاً للمحكمة الجنائية الدولية، ولمبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يتيح لبعض الدول محاكمة منتهكي القانون الإنساني أينما كانوا، إضافة إلى لجان تقصّي الحقائق التي قد تحوّل ما جرى إلى ملف إثبات دائم.
إلى جانب المسار القضائي، فإن الضغط السياسي، وفق المصادر، مرشّح للازدياد على كل دولة تمنح الغطاء لإسرائيل. فالتقرير الأممي سيُستَخدم كوثيقة إثبات في المحافل الدبلوماسية، وقد يشكًل قاعدة لتصعيد المطالب بفرض عقوبات أو على الأقل لدفع مزيد من العزلة الدولية. وفي المقابل، قد يجد الاحتلال نفسه لأول مرة مهدداً بتحقيق أممي مباشر في سياسة التجويع التي انتهجها طوال الأشهر الماضية.
غير أن العقدة الحقيقية تكمن في التنفيذ، إذ يبقى القانون حبراً على ورق ما دامت الإرادة السياسية غائبة، وما دامت واشنطن تواصل توفير مظلة حماية للاحتلال. هذا الانحياز يحوّل النصوص الواضحة إلى أوراق معطّلة، ويُفرغها من فعاليتها ويترك سكان غزة رهائن للجوع والموت البطيء، فيما الآليات القضائية والدبلوماسية تدور في دوائر بطيئة لا توازي سرعة الانهيار على الأرض. وبالتال، فإنّ الفجوة هنا ليست بين النص والواقع فقط، بل بين عدالة مُعلنة وقوة تحرص على دفنها.
في المحصلة، ما صدر عن الأمم المتحدة لم يكن مجرّد توصيف إضافي في أرشيف الحروب، بل إعلان صريح بأن ما يجري في غزة هو جريمة مُعترف بها دولياً. فالمجاعة لم تُفرض كقدر طبيعي، بل صُنعت بقرار سياسي وعسكري واضح. هنا تنكشف الحقيقة بلا ستار: شعب يُساق إلى الموت جوعاً، وقوة احتلال تُعرَّى أمام القانون. ويبقى الامتحان أمام المجتمع الدولي؛ فهل تُترجم القواعد إلى فعل يُحاسب الجناة، ويتحوّل هذا التوصيف الأممي إلى مسار عملي يفرض المحاسبة، أم يظلّ القانون الدولي مجرّد نصوص معطّلة أمام الحماية السياسية لإسرائيل؟