بين خطاب بري والتحضيرات لجلسة الحكومة... لبنان أمام اختبار سياسي جديد

لم يكن خطاب رئيس مجلس النواب نبيه بري في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر حدثًا عابرًا في المشهد اللبناني المتشابك، ولو أنه أضحى تقليدًا سنويًا، يعبّر من خلاله عن الموقف من مختلف التطورات والاستحقاقات المطروحة على طاولة البحث، فقد جاء هذه المرّة في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتقاطع الأزمات الداخلية مع الضغوط الخارجية، وتتشابك الاستحقاقات الحكومية مع المأزق العسكري على الحدود الجنوبية.
بدا بري في خطابه وكأنه يقرأ اللحظة السياسية بميزان دقيق، ليطلق مبادرة تحمل أبعادًا تتجاوز مضمونها المباشر، وتفتح الباب أمام أسئلة عن مستقبل الحكومة والحوار السياسي معًا. ولعلّ أهمية كلمة بري في هذا السياق تكمن أولًا في توقيتها. فالبلد يعيش مأزقًا سياسيًا معقّدًا، انطلاقًا من النقاش الساخن المفتوح حول سلاح "حزب الله"، والذي لا تبدو تأثيراتها على الحكومة خافية على أحد، خصوصًا بعد جلستي الخامس والسابع من آب.
في خضم هذه اللحظة، اختار بري أن يعيد طرح النقاش حول السلاح، لكن من زاوية لبنانية داخلية، محاولًا سحب الملف من التداول الخارجي. لكن اللافت أنّه تجنّب تحديد أي جدول زمني لمناقشة السلاح، مكتفيًا بالإعلان عن الاستعداد لفتح الباب أمام النقاش. وليس سرًا أنّ هذه النقطة ليست تفصيلًا، بل تعبّر عن مقاربة واقعية تحاول أن توازن بين حاجة الدولة إلى معالجة ملف السلاح، وبين تمسّك المكوّن الشيعي به باعتباره ركنًا أساسيًا من موازين القوى.
من خلال خطابه، قدّم بري نفسه كوسيط داخلي لا كطرف في السجال. فهو يملك موقعًا يمكّنه من إدارة النقاش، ويحاول أن يحافظ على صورة "الضامن للتوازنات"، وهو الذي لا يزال يُعَدّ الوجهة الأساسيّة لكلّ الموفدين الأجانب الذين يزورون لبنان، وخصوصًا الأميركيّين منهم الذين يدركون أنّ "الكلمة الفصل" تبقى عند بري، ولو أنّه في الوقت نفسه، جزء لا يتجزأ من "الثنائي الشيعي"، جنبًا إلى جنب "حزب الله".
بالتوازي مع ذلك، حرص رئيس مجلس النواب من خلال الخطاب على توجيه أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه، الأولى إلى الداخل اللبناني، لطمأنة القوى السياسية بأن البحث في ملف السلاح ممكن، ولكن من دون فرض شروط خارجية أو مهل زمنية، والثانية إلى الخارج، ولا سيما الأطراف الدولية، بأن الطائفة الشيعية ليست مغلقة تمامًا على أي نقاش، لكنها ترفض أي إملاءات تأتي من خارج المؤسسات اللبنانية. وبهذا، حاول بري أن يقدّم صورة مزدوجة: انفتاح محسوب على الحوار، مع تمسّك بالخطوط الحمراء التي تحمي موقع "الثنائي الشيعي".
في هذا السياق، يقول العارفون إنّ الخطاب لم يكن معزولًا عن النقاش الدائر حول انعقاد جلسة مجلس الوزراء. فالتحضيرات لهذه الجلسة كشفت حجم الخلافات بين القوى السياسية، خصوصًا في شأن مقاربة ملف السلاح. بكلام آخر، أراد بري أن يقول: إن النقاش حول القضايا الكبرى (السلاح مثلًا) لا يجب أن يتحوّل إلى ذريعة لتعطيل الحكومة، بل على العكس، يمكن أن يسير الحوار السياسي بالتوازي مع عمل مجلس الوزراء، بحيث لا يتكرر مشهد الشلل الذي عرفته الحكومات السابقة.
ولعلّ ما عزّز هذا التوجّه هو ما كشفته المعطيات السياسية عن موقف شيعي واضح: لا نية لتعطيل الحكومة أو مقاطعتها، ولا نية لتحريك الشارع في هذه المرحلة. وقد جاءت هذه الرسالة لتؤكد أن الثنائي الشيعي يسعى إلى إظهار نفسه كطرف مسؤول يوازن بين الدفاع عن مصالحه وبين الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي. ومن شأن هذا الموقف أن يخفّف من حدة المخاوف لدى القوى الأخرى، ويفتح المجال أمام استمرار العمل الحكومي، ولو بالحد الأدنى. كما أنه يوجّه رسالة إلى الداخل والخارج بأن الشيعة ليسوا في وارد التصعيد، بل في وارد المشاركة في رسم مخرج سياسي من الأزمة.
لكن لا يمكن فصل خطاب بري عن التطورات العسكرية في الجنوب. فالمواجهة المستمرة مع إسرائيل تضغط بقوة على الداخل اللبناني، وتجعل من أي مبادرة سياسية جزءًا من محاولة إدارة التوازنات الميدانية والسياسية معًا، علمًا أنّ الداخل اللبناني لا يزال يترقّب مضمون خطة الجيش لسحب السلاح من بعض المناطق والمخيمات. هذا البعد العملي قد يوفّر للحوار السياسي غطاءً واقعيًا، ويسمح بتظهير جدية ما يطرحه بري. فإذا ترافق النقاش السياسي مع خطوات عسكرية-أمنية على الأرض، يمكن أن يتحول الحوار إلى مسار فعلي لا مجرد كلام.
ومع ذلك، تبقى الحسابات الإقليمية حاضرة بقوة. فالمعادلات في الجنوب مرتبطة أيضًا بالتطورات في غزة وبالمفاوضات الإقليمية والدولية الجارية. من هنا، قد يُقرأ خطاب بري كجزء من محاولة لبنانية داخلية لإظهار أن بيروت لا تكتفي بانتظار التسويات الخارجية، بل تحاول أن ترسم مسارًا خاصًا بها.
من هنا، فإنّ ما بعد خطاب بري مفتوح على أكثر من سيناريو. الأول، أن ينجح في فرض إيقاع سياسي جديد: جلسة وزارية تنعقد بلا عراقيل كبيرة، وحوار يُطلق ولو بصورة شكلية، ما يوفّر حدًا أدنى من التهدئة السياسية. بهذا، يمكن للبنان أن يدخل مرحلة "تنفيس أزمات" ولو مؤقتة، تتيح للحكومة متابعة عملها وتخفيف الضغوط.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على أن يبقى الخطاب في إطار التطمينات اللفظية، من دون أي ترجمة عملية. في هذه الحالة، سيظل البلد أسير الجمود والانقسام، وستبقى جلسة الحكومة مجرّد محطة لتبادل الرسائل بين القوى السياسية، من دون إنتاج قرارات حقيقية.
أما السيناريو الثالث، فهو أن يتحوّل الخطاب إلى ورقة ضغط إضافية بيد بري، يستخدمها لترتيب التوازنات الداخلية مع الخصوم والحلفاء على حد سواء، من دون التزام بخطوات تنفيذية. وفي هذه الحال، سيظل مصير الحوار معلّقًا، رهن الحسابات الداخلية والتطورات الإقليمية.
في المحصلة، يعكس خطاب بري إدراكًا عميقًا لحساسية اللحظة. فهو يعرف أن لبنان يقف على فوهة أزمات متراكمة: حكومة مهددة بالشلل، جبهة جنوبية مفتوحة، وملف سلاح يعود إلى الواجهة. ومن خلال خطابه، حاول أن يرسم خريطة طريق تجمع بين الحوار السياسي واستمرار عمل المؤسسات.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل ينجح النظام السياسي اللبناني في التقاط هذه اللحظة وتحويلها إلى فرصة لإنتاج حلول داخلية، أم أن الانقسامات العميقة ستجهض أي محاولة، فيتحول خطاب بري إلى مجرد محطة في سلسلة طويلة من المبادرات غير المكتملة؟.
بين جلسة مجلس الوزراء المرتقبة وخطاب بري، يبدو لبنان أمام اختبار جديد، يضع نظامه السياسي على المحك مجددًا: إما أن يبرهن على قدرته في إنتاج حلول من داخل الانقسام، أو يترك نفسه رهينة انتظار التسويات الخارجية. وفي الحالتين، تبقى البلاد عالقة في معادلة الهشاشة التي باتت جزءًا من يومياتها.