مهل ضاغطة ونقاشات عقيمة... هل ينجو الاستحقاق النيابي من التعطيل؟

كما في كلّ مرّة، مع بدء العدّ العكسي للاستحقاق النيابي المقبل، والذي يوصَف هذه المرّة بالمفصليّ والمصيريّ بعد سلسلة التحوّلات الهائلة التي شهدتها البلاد منذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة، يجد لبنان نفسه مرة جديدة أمام أزمة تتعلّق بقانون الانتخابات، وهي أزمة تكاد ترافق كل استحقاق نيابي منذ الاستقلال، حيث يتحوّل النقاش التقني حول النظام الانتخابي إلى صراع سياسي يختزن رهانات على السلطة والنفوذ.
لكنّ ما يجعل الوضع الراهن أكثر خطورة أنّ الجدل الدائر حول تعديلات القانون، وتحديدًا في ما يخص تسجيل المغتربين والتقسيمات، لم يعد يقتصر على شدّ حبال سياسي، بل يثير خشية جدّية من أن يطيح الاستحقاق النيابي برمّته، في بلد يعيش أصلاً على وقع فراغات متراكمة وأزمات دستورية متلاحقة، حتى إنّ بعض النواب لا يخفون أنّ لدى الكثير من الكتل السياسية رغبة ضمنية في تأجيل الانتخابات، لأشهر، بل ربما لسنوات.
لا يقلّل من هذه الخطورة استنفار الحكومة المُعلَن لتطبيق قانون الانتخاب، سواء من خلال الإجراءات التنفيذية التي بدأت عبر وزارتي الداخلية والخارجية، أو من خلال التصريحات والمواقف، وآخرها قول رئيس الحكومة نواف سلام إنّه ملتزم بإجراء الانتخابات في موعدها، وضمان حق جميع اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين في الاقتراع ضمن دوائرهم، إذ إنّ تجارب سابقة أظهرت رمي الحكومات للكرة دائمًا في ملعب مجلس النواب.
ولعلّ ما جرى في اليومين الماضيين خلال وعلى هامش الجلسة التشريعية، يؤشر إلى ذلك بوضوح، في ضوء السجال العنيف الذي دار حول القانون الانتخابي بين النواب والكتل، بين من يتمسّك به ومن يريد تغييره في اللحظة الأخيرة، وبين من يريد أن يقتصر التعديل على بند انتخابات المغتربين، ومن يعتبر المقاعد الستّة المخصّصة لهم انتقاصًا في مقابل من يراها إنجازًا، ويبقى السؤال: هل يمهّد هذا المناخ المتوتر للإطاحة بالاستحقاق؟.
منذ انتخابات 2009 وما تبعها من تمديدات متكررة للمجلس النيابي (2013، 2014، 2017)، تحوّل قانون الانتخاب إلى ساحة مواجهة أساسية بين القوى السياسية. فبينما أُقرّ اعتماد النسبية عام 2017 للمرة الأولى في تاريخ لبنان، بقيت آليات تطبيقها محطّ خلاف، سواء في ما يتعلق بتقسيم الدوائر أو باحتساب الأصوات التفضيلية، خصوصًا أنّ كثيرين يصفونها في القانون الانتخابي الحالي بأنّها "أكثرية مقنّعة"، أو "نسبية مشوّهة" في أفضل الأحوال.
اليوم، يُعاد فتح هذا الصندوق مجددًا مع اقتراب موعد الانتخابات، حيث تتقدّم الخلافات حول مسائل محدّدة، أبرزها التسجيل المسبق للمغتربين، صوت الانتشار، وتوزيع المقاعد، في ظلّ إشكالية مرتبطة بستة مقاعد كان يفترض أن تكون مخصّصة للمغتربين، وهو ما يرى كثيرون أنّه يهمّش المغتربين ويُبعِدهم أكثر عن الوطن، فيما يذهب بعض النواب لحدّ المطالبة بـ"ثورة" عنوان تغيير قانون الانتخاب برمّته، ولو أنّه لم يُجرَّب إلا لدورتين.
وعلى هامش كل هذا، تعود لغة الاتهامات لتسود المشهد، وتكرّس واقع الانقسام العموديّ في البلاد، وقد برز مثلاً تحميل المعارضة لرئيس مجلس النواب نبيه بري مسؤولية التعطيل، رغبة منه في فرض وقائع جديدة قد تؤدي إلى خلط الأوراق، وربما تأجيل الاستحقاق، فيما يقول المحسوبون على بري إنّ المعارضة هي التي تتعمّد تسييس الملف، في حين أنّ ما يقوم به رئيس مجلس النواب عمليًا ليس سوى "تصويب المسار".
تكشف هذه المواجهة التي رُفِعت فيها الأسقف إلى الحدّ الأعلى، عن انعدام الثقة بين السلطة والمعارضة، حيث يُقرأ كل تفصيل تقني باعتباره خطوة ضمن معركة النفوذ الأكبر، حتى إنّ بعض الأوساط السياسية لا تتردّد في الحديث عن "تقاطع الخصوم" على الإطاحة بالانتخابات، ولو تفاوتت الأسباب في ذلك، حتى إنّ النائب سجيع عطية تحدّث صراحةً عن هذا الأمر قبل مدّة، وذهب لحدّ تحديد مدّة التأجيل، ولو وضع كلامه في سياق القراءة السياسية.
في خضم هذه الأزمة، تتجه الأنظار إلى رئيس الجمهورية جوزاف عون. فثمة رهان واسع على أن يتدخّل مباشرة لتأمين مخرج يضمن إجراء الانتخابات في موعدها. وقد بدأ يُتداول أنّ عون يدرس إمكان الدعوة إلى لقاء جامع للقوى السياسية، أو استخدام صلاحياته الدستورية لدفع المؤسسات إلى الالتزام بالمواعيد. غير أنّ موقعه الرئاسي الدقيق يجعله حذرًا، إذ يدرك أنّ أي خطوة قد تُفسَّر بأنها انحياز لفريق ضد آخر.
في المقابل، لا يغيب العامل الخارجي الذي قد يكون مؤثّرًا، في ضوء الضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي، وخصوصًا واشنطن وباريس اللتان تراقبان التطورات عن كثب، وتوجّهان رسائل مباشرة تحذر من أي تعطيل، وسط رسائل ضمنية من المجتمع الدولي مفادها أن أي إخلال بالاستحقاق سيؤدي إلى عواقب سياسية ومالية، وسط تقديرات بأنّ جميع المساعدات التي ينتظرها لبنان مشروطة بانتظام الحياة الدستورية، إلى جانب نزع السلاح والإصلاح.
من هنا، يندرج الاستحقاق النيابي بحسب ما يقول العارفون في خانة "التزامات لبنان الدولية"، ولا يمكن النظر إليه بوصفه مجرّد محطة داخلية، ولا سيما أن هذه الضغوط الخارجية تمنح الملف بعدًا إضافيًا، فهي تُظهر أن الأزمة لا تنحصر في السجال المحلي، بل باتت مسألة مصداقية للبنان أمام العالم. ومع ذلك، يعرف الداخل أنّ الضغط الدولي وحده لا يكفي لضمان الانتخابات، طالما أنّ القوى المحلية قادرة على التعطيل بأساليبها ووسائلها.
أمام هذا المشهد، تبرز عدة سيناريوهات محتملة، كل واحد منها يحمل تداعياته، أولها إجراء الانتخابات في موعدها، وهو الخيار الذي يدعمه الخارج ويراهن عليه الشارع، لكنه يتطلب تسوية داخلية تُبقي الخلافات تحت سقف القانون، باعتبار أنّ التعديلات المفترضة على القانون لا يمكن قانونيًا أن تقف حائلاً دون إجراء الانتخابات بالدرجة الأولى. ولا شكّ أنّ نجاح هذا السيناريو يعني تجديد الشرعية البرلمانية وإعادة ضخّ بعض الحيوية في النظام.
إلا أنّ هذا السيناريو يصطدم بسيناريو آخر، هو التمديد للمجلس النيابي، وقد سبق أن حصل مرّات عدّة، ويبقى "شبحه" مرافقًا لكلّ الاستحقاقات الانتخابية، ولو أنّ أسبابه تتفاوت بين ما هو أمنيّ، يمكن التلطّي خلفه، وما هو تقني، ربطًا بقانون الانتخاب، وضرورة إجراء تعديلات عليه، ولعلّ المفارقة-اللغز هي أنّ النواب لا يتذكّرون قانون الانتخاب إلا في ربع الساعة الأخير، رغم أنّ ولايتهم تمتدّ لأربع سنوات.
وبين هذا وذاك، يتحدّث البعض عن سيناريو التدخل الرئاسي مثلاً من أجل تحضير الأرضية اللازمة للانتخابات، من دون أن تعمّق الانقسام أو تفاقم الأزمة القائمة، حيث يرى كثيرون أنّ رئيس الجمهورية مثلاً قادر، من خلال الموقع الذي يمثّله، وقربه حتى الآن من الجميع، على دعوة الفرقاء من أجل صياغة تسوية شاملة، تحفظ ماء وجه الجميع وتُبقي الباب مفتوحًا أمام الانتخابات. لكن نجاح هذا السيناريو مرهون بمدى استعداد القوى لتقديم تنازلات.
في المحصلة، يظهر أن قانون الانتخابات في لبنان لم يعد مجرّد نص تشريعي يُحدّد آليات اقتراع، بل تحوّل إلى مرآة لصراع عميق على السلطة والشرعية. فكلّ تعديل، مهما بدا بسيطاً، يثير أسئلة وجودية حول التوازنات الطائفية والسياسية. ومع اقتراب المهل الدستورية، يتزايد القلق من أن تتحوّل الخلافات إلى ذريعة جديدة لإجهاض الاستحقاق، في بلد لم يعد يحتمل المزيد من الفراغات.
وعليه، يبقى السؤال المفتوح: هل تنجح القوى السياسية في التوصّل إلى تسوية تُبقي الانتخابات في موعدها، أم أنّ لعبة الحسابات الضيقة ستدفع لبنان مجدداً إلى أزمة شرعية تُفاقم الانهيار القائم؟