اتفاق غزة "يريح" العالم مؤقتًا... أين موقع لبنان منه؟!

أعاد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد حربٍ وحشيّة همجيّة استمرت عامين كاملين، رسم المشهد الإقليمي من جديد، بقدر ما أثار ارتياحًا عالميًا، لكونه ينهي عمليًا ما يصحّ وصفه بـ"الكابوس" الذي أخذ شكل حرب إبادة تكاد تكون غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وقفت أمامها دول العالم والمنظمات الأممية والمؤسسات الإنسانية الدولية عاجزة، إن لم تكن متواطئة.
وجاء الاتفاق الذي حمل بصمات أميركية واضحة، بعد مفاوضات مضنية في شرم الشيخ، كمرحلة أولى من تسوية طويلة المسار تتضمن انسحابًا تدريجيًا، وعودة للنازحين، وتبادلًا للأسرى، مقابل ترتيبات أمنية صارمة وضمانات دولية. ومع أن واشنطن نجحت في تمرير الاتفاق عبر ضغطها على تل أبيب والوسطاء الإقليميين، فإنّ الأنظار تبقى مركّزة على ما بعد المرحلة الأولى، التي قد تكون "الأسهل" في العملية التفاوضية.
وفي وقت رحّبت العواصم العربية والدولية بالاتفاق الذي أنهى واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وربما أطولها على الإطلاق، انشغل لبنان بتقويم انعكاسات الاتفاق عليه، خصوصًا أنّ الجبهة اللبنانية التي اشتعلت تحت عنوان "إسناد غزة" قبل عامين، وتحوّلت إلى حرب استنزاف بأتمّ معنى الكلمة، غيّرت الكثير من معادلاته، لم تخمد بعد، رغم مرور نحو عام على اتفاق وقف إطلاق النار.
هنا ثمّة الكثير من علامات الاستفهام التي تُطرَح، فهل يكتب اتفاق غزة فعلاً النهاية لحرب "طوفان الأقصى" التي تمدّدت إلى جبهات مختلفة، أم يكون كما يقول البعض مجرّد "استراحة"، قبل أن تعود لغة الميدان إلى السيطرة، ما دامت الأهداف الكاملة لم تتحقّق، ومعادلة "اليوم التالي" لم تنضج؟ وما موقع لبنان من كلّ هذه المشهديّة؟ هل ينعكس عليه الاتفاق إيجابًا، فتخمد جبهته أخيرًا، وماذا عن فرضية "التصعيد" التي يتمّ تداولها؟.
في المبدأ، قد يكون من المبكر القول إنّ صفحة حرب "طوفان الأقصى" قد طويت بالمطلَق، ولو أنّ الاتفاق الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بوصفه "إنجازًا شخصيًا" له، هو خطوة أساسيّة باتجاه طيّ هذه الصفحة، إلا أنّ هذا الاتفاق يبقى مرحليًا، بانتظار المفاوضات التي يفترض أن تتخلّل التطبيق، حول المراحل اللاحقة منه، في ظلّ مخاوف مشروعة من اصطدامها بالشروط والشروط المضادة، وبالتالي عودة الأمور إلى نقطة الصفر.
في الوقت الحالي، تشير الوقائع التي أحاطت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار إلى أنّ ما تحقّق يشكّل "استراحة" لا بدّ منها لكلّ الأطراف، بعد حربٍ منهكة بكلّ المقاييس، وهي "استراحة" يفترض أن تمهّد لمفاوضات تثبّت التهدئة، وترسم بوضوح ملامح "اليوم التالي" ليس في غزة فحسب، بل ربما في الإقليم برمّته، إذ من الواضح أنّ إسرائيل ما بعد "طوفان الأقصى" ليست كما قبلها، في ضوء مساعيها لفرض سيطرتها على المنطقة ككلّ.
استنادًا إلى ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ حكومة بنيامين نتنياهو تتعامل مع اتفاق غزة كفرصة لإعادة التقاط الأنفاس لا أكثر. فالرجل الذي بنى مسيرته السياسية على "الحروب المستمرة" يدرك أن نهاية الحرب على غزة قد تعني بداية أزمة داخلية، ولذلك، فإن تل أبيب لن تتعامل مع وقف النار كتحوّلٍ استراتيجي، إلا إذا حقّق له أهدافه المُعلَنة، وهي قد تسعى لاستنساخ تجربة الخروقات في لبنان، في غزة، حيث لا ضامن أساسًا، ولا رادع بطبيعة الحال.
ولأنّ لبنان كان جزءًا من حرب "طوفان الأقصى" منذ فتح "جبهة الإسناد" في اليوم التالي، وهو ما لا يزال يدفع ثمنه حتى اليوم، فهو لن يكون بمعزل عن ارتدادات اتفاق غزة، وسط تضارب في القراءات والتحليلات: فمن جهةٍ، هناك من يرى في وقف النار فرصة لتثبيت الهدوء على الجبهة الجنوبية، ولإعادة تفعيل القرار 1701 من خلال الوساطات الدولية، ومن جهةٍ أخرى، يتخوّف البعض من أن تعمد إسرائيل إلى نقل الضغط من غزة إلى لبنان.
ولا يستبعد أصحاب الرأي الثاني أن "يعوّض" نتنياهو الفراغ الذي سينجم عن هدوء المعارك في غزة، تصعيدًا عسكريًا في لبنان، يتجاوز قواعد الاشتباك المرسومة منذ اتفاق وقف إطلاق النار، إما عبر توسيع "حرية الحركة" التي شرّعها لنفسه، أو من خلال الذهاب إلى جولة ثانية من القتال، تستكمل ما كانت بدأته الحرب على لبنان العام الماضي، خصوصًا أنّ قادة إسرائيليين يلوّحون بذلك، ويشكّكون بقدرة الحكومة والجيش على نزع سلاح "حزب الله".
أما بالنسبة إلى "حزب الله"، فتشير المعطيات المتوافرة إلى أن اتفاق غزة لن يغيّر في الوقائع شيئًا بالنسبة إليه، وهو الذي التزم باتفاق وقف إطلاق النار المبرَم منذ تشرين الثاني الماضي، بعكس إسرائيل التي تخرقه كل يوم على مرأى ومسمع الدول الضامنة. وهو يرى أنّ الاتفاق الذي جرى التوصل إليه، والتهويل الذي أحاط به بنقل المعركة إلى لبنان، يعزّز وجهة نظره في ضرورة الحفاظ على السلاح، مقابل منطق حصره بيد الدولة.
في المقابل، تميل القراءة الواقعية للأحداث إلى استبعاد الذهاب إلى جولة تصعيد جديدة في لبنان، فالولايات المتحدة التي سعت إلى ترسيخ الهدنة في غزة، تحرص بالقدر نفسه على منع انفلات الجبهة اللبنانية، باعتبار أنّ وساطتها قائمة من أجل حلّ الأمور بالدبلوماسية، كما أنّ ثمّة قناعة بأنّ المناخ الإقليمي الذي أفرز التسوية في غزة لا يحتمل حربًا ثانية، وسط معلومات عن اتصالات مكثفة جرت ضمن مسعى واضح لاحتواء أي احتمالٍ لتوسيع رقعة المواجهة.
لكنّ ذلك لا يعني غياب الضغط، إذ تشير المعطيات إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد زيادة في المطالب الأميركية المتعلقة بتطبيق القرار 1701 "بحرفيته"، أي بتموضع الجيش اللبناني جنوب الليطاني، والذهاب إلى خطوات جدية وملموسة على طريق نزع سلاح "حزب الله". وهذا ما يفسّر العودة الأوروبية إلى الحديث عن دعمٍ عاجلٍ للجيش وتجديد التمويل لبرامج المساعدات الأمنية، في سياقٍ يبدو أقرب إلى "الاحتواء الناعم" منه إلى التصعيد.
ورغم الإجماع على أن حربًا شاملة بين لبنان وإسرائيل غير واردة في المدى المنظور، إلا أن احتمال التوتير الميداني يبقى قائمًا، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ هذا التوتير سيشمل كلّ الجبهات، بما في ذلك غزة، حيث قد يسعى نتنياهو لتكرار "نموذج لبنان" في غزة، أي فرض هدنة من طرفٍ واحد تُبقي إسرائيل متحكمةً بالإيقاع الميداني، استنادًا إلى منطق "حرية الحركة" لمواجهة أيّ تهديد، تمامًا كما هو حاصل في لبنان منذ أشهر.
في المحصلة، لا يبدو أن اتفاق غزة سينعكس على لبنان بارتياحٍ فوريّ، ولا بانفجارٍ وشيك. فالبلد يقف على خطّ التوازن الحرج بين الضغط والفرصة: الضغوط تتمثل في محاولات واشنطن وتل أبيب إعادة صياغة المعادلات الأمنية في الجنوب، والفرص تكمن في إمكانية توظيف المناخ التفاوضي الدولي لانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية تخفف من عزلة لبنان.
ويبقى السؤال الأهم: هل يستفيد لبنان من لحظة التهدئة الإقليمية لتثبيت معادلة الاستقرار النسبي، أم يجد نفسه مجددًا في قلب اختبارٍ جديد على جبهةٍ لم تُطفأ نارها أصلًا؟ الجواب مرهون بالسياسة أكثر من الميدان، وبقدرة الأطراف اللبنانية على التعامل مع المرحلة كنافذةٍ للمبادرة، لا كفترة انتظار.