القاهرة تدخل على خط الجبهة اللبنانية... لماذا الآن وأيّ فرصٍ لوساطتها؟
على وقع التصعيد الإسرائيلي المتواصل بالنار جنوب لبنان، والذي يستعيد مشهديّة ما قبل الحرب الأخيرة إلى حدّ بعيد، جاء الحراك الدبلوماسي المكثّف الذي شهدته العاصمة اللبنانية بيروت في الأيام الأخيرة، في محاولة لفتح نافذة تبريد للجبهة قبل اتساع رقعة الاشتباك. وقد شمل هذا الحراك قنوات متعدّدة، تصدّرتها الولايات المتحدة بجولة موفدتها مورغان أورتاغوس، وما سبقها من مواقف لزميلها المبعوث الرئاسي توم براك، التي وُصِفت وقتها بـ"الخطيرة".
إلا أنّ هذا الحراك لم يعد محصورًا بالأميركيين على ما يبدو؛ إذ انضمّ إليهم وافدٌ جديد هو الجانب المصري. وهذا ما تجلّى في الزيارة الخاطفة التي قام بها مدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد، والتي كان السفير المصري لدى بيروت علاء موسى قد مهّد لها بجولة شملت رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، ورسمت الخطوط العريضة للدور الذي تودّ القاهرة لعبه في بيروت، والذي يبدو أنّه لا يزال في مرحلة "جسّ النبض".
ولا يبدو التزامن بين زيارتي أورتاغوس ورشاد عابرًا أو شكليًا؛ بل يراه كثيرون أقرب إلى إعادة توزيع للأدوار، خصوصًا بعدما "ترنّحت" المبادرة الأميركية تحت وطأة التصريحات الأخيرة لبراك التي عبّر فيها عن انحياز غير مفاجئ لصالح إسرائيل. فبدل السعي إلى انتزاع ضمانات واضحة لوقف الخروقات الإسرائيلية، كرّر الوعيد الإسرائيلي بتحرّك وشيك في حال عدم المضيّ سريعًا بإجراءات نزع سلاح "حزب الله".
من هنا، تتّجه الأنظار إلى الدور المصري المستجدّ، الذي يبدو حتى الآن محاولة منظَّمة لملء فراغ الوساطة، بآليات صغيرة قابلة للقياس بدل القفز إلى تسوياتٍ كبرى مستحيلة في اللحظة الراهنة. لكن هل تملك القاهرة ما يكفي من الأدوات والهوامش لتثبيت تبريدٍ تدريجيّ في الجبهة اللبنانية، عجزت عنه واشنطن على امتداد وساطتها، أم أنّ الإيقاع الإسرائيلي ـ الأميركي سيبقى هو المتحكّم بمستوى المخاطرة؟.
قبل التوقّف عند المبادرة المصرية وآفاقها، لا بدّ من المرور على الوساطة الأميركية التي تحرّكت هذا الأسبوع مجدّدًا مع زيارة أورتاغوس إلى بيروت، وذلك بعد فترة من الجمود والتراجع، علمًا أنّ هذه المبادرة كانت الوساطة الوحيدة المطروحة على الطاولة منذ ما قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي التزم به لبنان أحاديًا منذ تشرين الثاني الماضي، فيما خرقته إسرائيل مئات المرّات، ولأكثر من مرّة في اليوم الواحد.
لكنّ العارفين يقولون إنّ هذه المبادرة فقدت تدريجيًا صفة الوساطة المتوازنة، خصوصًا بعدما خرج الكلام الأميركي من خانة "الرعاية" إلى خانة "الإنذار". فحين يُلوّح وسيطٌ مفترض بخيار تحرّك إسرائيلي وشيك إذا لم يمضِ لبنان في طريق معيّن، يصبح المسار كلّه مهدّدًا بنقضٍ ذاتي: كيف تُقنع طرفًا محاصرًا بالنار بتقديم تنازلات من دون أن تضع على الطاولة حدًّا أدنى من الضمانات التي توقف تلك النار؟
هنا تحديدًا، تحوّلت "المبادرة" إلى قناة ضغط، وتسرّب إليها ما يشبه الاعتراف بأنّ وقف الخروقات ليس أولوية ما لم تلبِّ بيروت مطالب محدّدة سلفًا. وبذلك، صارت واشنطن، من وجهة نظر فاعلين لبنانيين، طرفًا يفاوض باسم طرف، لا مظلّة تفاوضٍ بين طرفين، خصوصًا أنّ الضغوط التي تعرّض لها لبنان طيلة الأشهر الماضية، لم تقابلها ضغوط موازية على إسرائيل، على الرغم من أنّها الطرف الذي يخرق اتفاق وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من أنّ المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس حاولت خلال زيارتها الأخيرة تبديد انطباع التحيّز الذي خلّفته تصريحات زميلها توم براك الأخيرة، وهي التي كانت أوّل من كرّس هذا الانطباع يوم شكرت إسرائيل على حربها ضدّ لبنان من قلب القصر الجمهوري خلال زيارتها الأولى، فإنّ الزيارة أكّدت أيضًا أنّ واشنطن غير جاهزة لمنع إسرائيل من التصعيد إذا ارتأت ذلك؛ بل قد لا تمانع خيار ضربة إسرائيلية محدودة ومحدّدة الأهداف.
من هذه الفجوة بالذات، دخلت القاهرة على الخط، مستندةً إلى التجربة التي راكمتها في ملف غزة، حيث لعبت دورًا جوهريًا في المفاوضات بالشراكة مع قطر وبالتنسيق الوثيق مع واشنطن. وهي تجربة لا تخفي القاهرة رغبتها في استنساخها في لبنان، ولو بصيغة "معدّلة" تراعي الحسابات والتعقيدات الداخلية. فلا مقايضات كبرى هنا، بل خطوات تدريجية قابلة للقياس تُخفّض مخاطر الانزلاق وتُبقي باب التهدئة مفتوحًا.
على هذا القياس، يُفهَم التحرّك المصري في لبنان، الذي لا يرقى حتى الآن إلى مستوى الخطة المكتملة، وإن رسمت مؤشراته الأولية معالم مقاربة واقعية تقوم على ركائز عدّة؛ منها أنّ الهدف ليس حلًّا نهائيًا بل خفض منسوب الاشتعال وتثبيت سقف اشتباك منخفض، مع التأسيس لمقايضة "جزئية" إن صحّ التعبير، تقوم على "التبادلية": مقابل كل خطوة لبنانية "منضبطة" تُنتظَر خطوة مقابلة إسرائيلية قابلة للتحقّق، بما يضبط خطاب التهويل ويقلّص وتيرة الخروقات.
عمليًا، تراهن القاهرة على ثلاث فرضيات متكاملة، وفق ما يقول العارفون: الأولى أنّ فراغ الوساطة قاتل، وأنّ إبقاء الساحة بلا قناة "مُحايدة نسبيًا" يرفع احتمالات سوء التقدير؛ والثانية أنّ ما بعد غزة ليس كما قبلها، بمعنى أنّ وقف إطلاق النار هناك أعاد الاعتبار لمنطق "التفاوض الممكن تحت ضغط النار" شرط أن تكون الخطوات قابلة للرصد وقابلة للرجوع عنها عند اللزوم؛ والثالثة أنّ إسرائيل نفسها لا تملك رفاهية حربٍ مفتوحة شمالًا في هذه المرحلة.
لا يعني ذلك أنّ الطريق أمام الوساطة المصرية سالك فعلاً، ولو أنّها يمكن أن تؤمّن في مكانٍ ما معظم ما يطلبه الأطراف المعنيّون. فواشنطن تحتاج إلى مسارٍ يخفّض الكلفة من دون أن تضطر لتقديم تعهّدات لا تستطيع تمريرها. وتل أبيب تريد سقفًا تفاوضيًا أعلى من سقف التبريد المتدرّج كي لا تبدو "منسحبة تحت الضغط". أمّا لبنان، فيحتاج من داخله إلى خطابٍ رسميّ موحّد يقلّص التناقض بين الرسائل السياسية والوقائع الميدانية.
إزاء ذلك، تبدو المبادرة المصرية، إن اكتملت، خطوة أولى في هذا المسار. فالمطلوب اليوم ليس اتفاقًا كبيرًا بقدر ما هو إدارة رشيدة للفراغ: وضع سقفٍ أدنى للاشتباك، وتثبيت حواجز أمانٍ تمنع الانزلاق، وتحييد الملفات القصوى التي لا تجد ضماناتها في الوقت الراهن. إن تحقّق هذا الحدّ الأدنى، ترتفع جدوى الوساطة تدريجيًا، سواء توسّعت لاحقًا إلى ترتيباتٍ أوسع، أو بقيت في حدود "هدنة" تمنح الدولة هامشَ تنفّسٍ سياسيًّا وماليًّا.
حتى الآن، يوحي الانطباع الأولي في بيروت بأنّ القاهرة بدأت فعلًا "اختبار النيات" عبر لقاءاتٍ مع المراجع الأساسية وقياس الاستعدادات الواقعيّة لدى الأطراف. إذا لمس المصريّون قابليةً لتبادل خطواتٍ صغيرة، سيُبنى على الشيء مقتضاه، وقد تُنشَّط قنوات تقنية-أمنيّة أكثر انتظامًا بعيدًا من الضجيج. أمّا إذا بدا أنّ الأطراف تُفضّل إبقاء أدوات الضغط مرفوعة بلا حدٍّ أدنى من المقابلة، فستصطدم الوساطة سريعًا بسقفها، وتعود البلاد إلى عضّ الأصابع.
في كلّ الأحوال، تبدو "النافذة المصرية" الآن الفرصة الأكثر عقلانية لالتقاط الأنفاس وتثبيت تهدئةٍ تدريجية؛ ما دامت واشنطن غير مستعدّة لتقديم ضمانات متوازنة، وتل أبيب تفضّل إبقاء التهديد على الطاولة بدل دفع كلفة الحرب. أمّا رهان لبنان، فـ"هدنة ممكنة" بالحدّ الأدنى، على الأقلّ إلى أن تتبدّل المعادلات أو تنضج التسويات، وهذا تحديدًا ما تُجيده القاهرة، بالنظر إلى تجربة غزة غير البعيدة.