اخبار لبنان اخبار صيدا اعلانات منوعات عربي ودولي صور وفيديو
آخر الأخبار

جريمة بليدا تقلب المعادلات... هل يدخل لبنان الرسمي الحرب ضد إسرائيل؟

صيدا اون لاين

حتى لو كانت الجريمة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في ​بلدة بليدا​ مجرّد خرق من سلسلة طويلة من الخروقات التي بدأت منذ لحظة التوقيع على ​اتفاق وقف إطلاق النار​، حين خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتنياهو​ ببدعة ما سُمّيت بـ"حرية الحركة"، للردّ على كلّ ما يمكن أن يعتبره "مصدر تهديد"، من دون أن يضطر إلى تبرير ذلك لأحد، إلا أنّها تبقى في التصنيفات السياسية والأمنية مختلفة عن كلّ ما سبقها من اعتداءات وهجمات.


فأن تتوغّل قوة إسرائيلية تحت جنح الظلام إلى داخل بلدة جنوبية يفترض أنها "محرّرة"، ثمّ تقتحم مبنى البلدية، وتعدم أحد الموظفين بدم بارد وهو نائم، لا يمكن أن يُعَدّ حدثًا عابرًا في سجلّ الانتهاكات الإسرائيلية، التي تركّزت منذ اتفاق وقف إطلاق النار على الجو، ولا سيما أنّه أعاد إلى الأذهان توغلات الستينيات والسبعينيات، مع خطورة مضاعفة باعتبار أنّ الاستهداف طال هذه المرة مؤسسة رسمية هي البلدية التي تتبع مباشرة لوزارة الداخلية.


سريعًا، خلطت الجريمة غير المسبوقة أوراق الداخل، ودفعت السلطة إلى ما يشبه الاستنفار الأمني، الذي وصل إلى الذروة مع موقف رئيس الجمهورية ​جوزاف عون​ الذي وصفه كثيرون بالاستثنائي والنوعي، حين طلب من قائد الجيش العماد رودولف هيكل "التصدّي لأيّ توغّل إسرائيلي داخل الأراضي الجنوبية المحرّرة"، وهو ما أخرج الخطاب الرسمي للمرة الأولى ربما من لغة الإدانة، إلى مشارف التلويح بالفعل الميداني والمواجهة العسكرية.

هكذا، بدا لبنان الرسمي كأنّه يرفع منسوب المواجهة خطوة، ولا سيما أنّ كلام الرئيس عون قوبل بترحيب من "​حزب الله​"، فيما رفعت إسرائيل بدورها من منسوب التهديدات بتصعيد عملياتها ضدّ لبنان، حتى إنّ معلومات تحدّثت عن رسالة أبلغتها تل أبيب إلى واشنطن بهذا الخصوص، فهل يعني ذلك أنّ لغة النار عادت لتتصدّر المشهد، مع ما يعنيه ذلك من تقويض للمساعي الدبلوماسية التي كادت تعبر بالبلاد إلى برّ الأمان في الأيام القليلة الماضية؟.
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال، وهو ممّا قد يدرجه كثيرون في إطار التكهّنات، باعتبار أنّ كل السيناريوهات تبقى مفتوحة، لا بدّ من الانطلاق من قراءة شاملة للمشهد، الذي عاد مساران متكاملان متناقضان يتجاذبانه إن صحّ التعبير، الأول أمني من خلال الضغوط الميدانية الإسرائيلية التي تتدرّج من المسيّرات واستهداف البنى التحتية والمدنية، وقد أضيفت إليها التوغلات البرية، والثاني سياسي تفاوضي يتلكأ ويهتزّ مع كل موجة نيران جديدة.

قد لا يكون هذا الأمر بجديد، فهو يكاد يكون من "الثوابت" التي أحاطت بجبهة الجنوب منذ اتفاق وقف إطلاق النار، وأبقتها "مشتعلة" على امتداد الأشهر الماضية، لكنّ الجديد "النوعي" قد يكون في موقف لبنان، وتحديدًا الموقف الرسمي الذي عبّر عنه رئيس الجمهورية، وفتح الباب أمام مجموعة من علامات الاستفهام، أولها: هل نحن أمام قرار عاطفيّ لتنفيس الصدمة التي خلّفتها جريمة بليدا، وما خلّفته من ضغط داخلي، أم أمام تحوّل فعلي في وظيفة الجيش جنوبًا؟.

لا توحي المؤشرات الأولية بأنّ هذا الموقف كان لفظيًا أو شكليًا خالصًا، ولا سيما أن صياغته جاءت بصيغة "طلب رئاسي" مباشر إلى قائد الجيش، وفي بيان رسمي صادر عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية، ما ينزع عنه شبهة الاستهلاك الإعلامي مثلاً، التي كانت لتصحّ لو أنّه صدر عن أحد مستشاري الرئيس أو المحسوبين عليه، لكنّ الرئيس أراد إعادة تعريف الاشتباك عن سابق تصوّر وتصميم، فالتصدّي للتوغل هو واجب دفاعيّ بالدرجة الأولى.
بمعنى آخر، يقول المؤيدون لوجهة نظر الرئيس إنّ "التصدّي لأيّ توغّل" لا يساوي إعلان حرب أو فتح جبهة، بل يرسم نطاقًا دفاعيًا محدّدًا لمواجهة عمليات نوعية من نمط الجريمة التي وقعت في بليدا. لكن هل مثل هذا القرار قابل للتطبيق عمليًا؟ هنا يقول العارفون إنّ ذلك مرهون بعدّة شروط، وهي: الغطاء السياسي المستدام، والجهوزية العملانية واللوجستية، وقواعد الاشتباك مع "اليونيفيل" والآليات الدولية في الجنوب.

من دون توافر هذا "المثلث الذهبي"، إن صحّ التعبير، يتحوّل التكليف إلى عبءٍ على الجيش بدل أن يكون رافعةً للهيبة والسيادة. وهنا يبرز البُعد السياسي الداخلي: هل تملك الحكومة والقوى الممثَّلة فيها القدرة على تحمّل كلفة تصعيد مضبوط إذا وقع احتكاك مباشر مع قوة متوغّلة، أم أن أي اشتباك مهما كان محدودًا، قد يجرّ البلاد إلى تدحرجٍ تتحكم إسرائيل بإيقاعه وسقوفه كما توحي رسائلها العلنية الأخيرة؟

هكذا إذًا، يبدو أنّ المقصود ليس نقل الجيش إلى حرب شاملة، بل وضع حدّ للتمادي الإسرائيلي الذي تجاوز كلّ الحدود، وهو ما يعني أنّ سقف المهمة دفاعي-ردعي-موضوعي وليس هجوميًا، لكن ماذا عن تبعات هذا الموقف على الداخل، خصوصًا بعد التنويه الذي حصده الرئيس من "حزب الله"، الذي ربما يرى في هذا المسار فرصة لتثبيت المعادلات التي سادت بعد الحرب الأخيرة، لجهة وقوفه خلف الدولة وليس أمامها، في الدفاع عن لبنان وسيادته.
انطلاقًا من ذلك، ثمّة من يرى أنّ الموقف الرئاسي، بما ينطوي عليه من معادلات، قد يفتح نافذة إعادة توزيع أدوار، يصبح الجيش معها رأس حربة المواجهة، خصوصًا بالنسبة إلى الخروقات البرية التي لا تندرج في خانة "الردع الاستراتيجي". غير أن قدرة هذه النافذة على البقاء مفتوحة تتوقف على سلوك إسرائيل الميداني، وعلى مدى استعداد الداخل لتأمين الغطاء السياسي واللوجستي للمؤسسة العسكرية، من أجل القيام بهذه المهمّة فعلاً.

في المقابل، يغذّي مشهد بليدا سرديّة مضادة داخل بيئة المقاومة، تعيد طرح النقاش حول "حصر ​السلاح بيد الدولة​" إلى نقطة الصفر. ثمّة من يسأل في هذا الصدد: إذا كان اغتيال موظّف بلدي داخل مؤسسة رسمية ممكنًا بهذا اليُسر، فكيف يُطلَب من الحزب تسليم سلاحه أو خفض قدراته؟، وثمّة بين المقرّبين من الحزب مَن يتلطّى خلف هذا الموقف من أجل رفع منسوب التمسّك بالسلاح بوصفه الضمانة الأخيرة"، ويضع الدولة أمام امتحان "إثبات القدرة".

عمومًا، إذا كان صحيحًا أنّ أيّ فشل في ترجمة التكليف الرئاسي ميدانيًا سيعيد إنتاج معادلة "قوة لبنان في ضعفه" بثوبٍ أكثر فداحة، من دون نسيان الارتدادات الاقتصادية والمجتمعية لأيّ انزلاق جديد إلى المواجهة، فإنّ الثابت أنّ المطلوب الوصول إلى هندسة سياسية دقيقة تعالج هذه المشكلة بالمطلق، وتقوم على تثبيت قواعد اشتباك جديدة تمنع التوغّلات، توازيًا مع تشغيل "الميكانيزم" وإعادة وصل قنوات الوساطة الإقليمية التي تعطّلت.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ ما حصل في بليدا ليس "تفصيلاً" في حرب الرسائل المستمرة منذ فتح جبهة الإسناد اللبنانية، بل هو اختبارٌ مركّب: للدولة في إعادة تعريف دور جيشها ضمن بيئة جنوبية معقّدة، ولـ"حزب الله" في مقاربةٍ علنية تقول إنه يقف خلف الدولة في مهمة دفاعية محدّدة، وللمسار السياسي الذي وُلد هشًّا تحت عنوان "الميكانيزم" ثم اهتزّ تحت وقع التوغّلات.

على الطاولة اليوم سيناريوان: الأول تحويل "التصدّي" إلى قاعدة جديدة تُلجم التوغّلات وتُعيد الاعتبار لمكانة الدولة ومؤسساتها؛ والثاني أن يبتلع التصعيد هذه القاعدة في أول احتكاك، فنعود إلى مربّع الإدانة و"النأي بالنفس" المأزوم. قد لا يكون من السهل معرفة أيّهما سينتصر، لكن الأكيد أنّ الدولة هي التي ستختار مصير المعركة، فإمّا تكون جريمة بليدا تمهيدًا لمرحلة أشدّ قسوة، أو تكون اللحظة المفصلية التي تمنع الانزلاق إلى حرب أوسع!.

تم نسخ الرابط