هل تقود إسرائيل لبنان إلى حرب بلا جبهة؟

بين غارات الطائرات المسيّرة، واتهامات تصنيع المسيّرات،والضغط الأميركي المتصاعد على دور "اليونيفيل"، يعودإلى الواجهة سؤال مقلق: هل تقترب إسرائيل من قرارالتصعيد ضد لبنان، أم أن ما نشهده لا يزال في إطار لعبة مدروسة وممسوكة؟ في الظاهر، يبدو المشهد وكأن اتفاقوقف إطلاق النار يتآكل بهدوء، تحت وطأة اختلال ميداني متصاعد، وموقف لبناني رسمي عاجز عن بلورة أي رؤية موحّدة للرد أو الردع.
الضربة الإسرائيلية الأخيرة في الضاحية، بذريعة استهداف منشآت تابعة لحزب الله تُستخدم لتطوير الطائرات المسيّرة، ليست سوى حلقة جديدة في نمط هجومي جديد بدأ يطال مناطق خارج نطاق الجنوب، في خرق واضح للقرار 1701 وللخطوط التي كانت تُعتبر حمراء لعقود. تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس،الّذي أكد فيها أن لبنان "لم يلتزم بأي من تعهداته الدولية"،وأن إسرائيل "لن تقبل ببقاء أي بنية عسكرية للحزب على أي شبر من الأراضي اللبنانية"، تعكس مستوى تصعيديًّا لا يمكن تجاهله، وتوحي بنيّة مبيّتة لتوسيع رقعة الاستهداف، وربما التمهيد لمرحلة ما بعد القرار 1701، علماً أن الوزير الإسرائيلي توجه بالتحدي لرئيس الجمهورية جوزاف عون الذي يتعرض لحملة سياسية من قبل بعض الأطراف الداخلية أيضاً تبعاً لموقفه من السلاح والحوار.
الجدل حول صلاحيات "اليونيفيل"، ومحاولة الدفع نحوإنهاء دورها أو على الأقل تحجيمه، يدخل أيضًا في هذاالسياق التصعيدي. الولايات المتحدة تدفع باتجاه نقل المهام الأمنية من القوات الدولية إلى لجنة المراقبة الدولية، وتوسيعدور الجيش اللبناني في مداهمة مواقع محددة، بناء على معلومات استخباراتية تشاركها اللجنة. هذا التوجّه يحملفي طياته نوايا خطيرة، ليس فقط لعزل حزب الله ميدانيًا،بل لوضع الجيش اللبناني وجهًا لوجه أمام الحزب وبيئته،بما يفتح الباب على صدام داخلي محتمل، يتم تغليفه بغطاء أممي أو قانوني.
لكن المعادلة ليست بهذه البساطة. فحزب الله، رغم الضربات التي تلقاها منذ اندلاع الحرب في غزة فيتشرين الأول 2023، مرورًا بالحرب الإسرائيلية الشاملة فيأيلول 2024، والتي أسفرت عن استشهاد عدد من قياداته المركزية، لا يزال حاضرًا بقوة في المعادلة اللبنانية-الإسرائيلية. صحيح أن قدراته تراجعت بفعلا لاستنزاف، لكن الحزب لم يُلغَ من الميدان، ويبدو حتىاللحظة محافظًا على جهوزيته الدفاعية والردعية، ولو بحدود أضيق مما كان عليه.
في المقابل، الجيش اللبناني، وإن التزم علنًا بتطبيق القرار1701 وينسّق مع قوات اليونيفيل، إلا أن خياراته محدودةميدانيًا وسياسيًا، في ظل غياب رؤية وطنية جامعة ،وانقسام سياسي داخلي حول مستقبل سلاح حزب الله،والكيفية التي يجب التعامل معه بها. المعادلة الهشة لا تمنحالجيش قدرة حقيقية على لعب دور الحاجز أو الحامي، فيحال اندلعت مواجهة شاملة.
الدبلوماسية الدولية تبدو عاجزة، بل ومتهاونة، في ضبط التوتر. الدعم الأميركي المفتوح لإسرائيل، والتغطيّة السياسية الكاملة التي تحظى بها تل أبيب في مجلسالأمن، يجعلان من العودة إلى طاولة التفاوض بشأن الهدنة أو توسيع القرار 1701 أمرًا بعيد المنال حاليًا. بل إن بعضالأوساط الدبلوماسية الغربية بدأت تلمّح إلى فرض معادلةأمنية جديدة تشمل كامل الأراضي اللبنانية، وليس فقط جنوب الليطاني.
في ظل هذا المناخ، تُطرح تساؤلات حقيقية: هل تتجه إسرائيل فعلاً نحو فرض تغيير جذري في قواعد الاشتباك،وربما فرض تسوية ميدانية بقوة النار؟ وهل حزب الله قادرعلى امتصاص الضربات من دون الانجرار إلى حرب مفتوحة؟ وفي حال اندلعت تلك الحرب، هل سيكون لبنان على الحياد، أم أنه سيكون ميدانًا مكشوفًا أمام التصعيد،من دون قدرة على الرد أو حتى على الحماية؟.
الواقع أن إسرائيل، حتى اليوم، تمارس ما يشبه "الحرب الباردة الساخنة"، تضرب وتنسحب، تختار أهدافها بعناية،وتُراكم بنك معلوماتها حول الحزب والجيش والمجتمع. وهيتدري أن القرار اللبناني الرسمي لا يزال معلّقًا على صراعات الداخل، فيما القرار الفعلي للحرب والسلم باتخارج يد الدولة. في هذا السياق، يبدو أنّ لبنان أقرب إلى الانزلاق نحو تصعيد، لا حرب، قد لا يكون بقراره، ولا حتىبإرادة حزب الله وحده، بل نتيجة دينامية إقليمية ودولية أكبرمنه بكثير.