إقتراع المغتربين يشعل السجال النيابي: هل بدأت معركة 2026؟

قبل نحو عشرة أشهر على الموعد المفترض للانتخابات النيابية التي يصفها كثيرون بالمفصلية، بعد سلسلة من المتغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة، يبدو أن الاستحقاق بدأ فعليًا، مع تصاعد السجالات المتكرّرة حول قانون الانتخاب، ودعوات بعض القوى إلى تعديله، ومنها رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي اعتبر مؤخرًا أنّ القانون الحالي "خرّب لبنان"، وبالتالي لا بدّ من تغييره
وتجلّى هذا الانقسام السياسي في جلسة مجلس النواب الأخيرة، حيث كاد ملفّ اقتراع المغتربين أن "يفجّرها"، بعدما رفض بري إدراج اقتراح تعديل قانون الانتخاب، وتحديدًا المادة 122 التي تنص على تخصيص ستة مقاعد نيابية للمغتربين، على جدول الأعمال، رغم توقيع أكثر من ثمانية وستين نائبًا على العريضة المطالِبة بالتعديل، وبدعم من أكثر من ثلاثة عشر ألف توقيع من اللبنانيين غير المقيمين.
وإذا كان بري قد أشار إلى أن الموضوع قيد البحث في لجنة فرعية متخصصة، فإنّ العديد من النواب فسّروا هذا الموقف على أنّه محاولة لتأجيل الحسم، أو حتى لوضع التعديل في الأدراج، بانتظار اللحظة الأخيرة التي قد تُستخدم ذريعة لتطيير الانتخابات برمّتها، علمًا أن بعض الأوساط ترى أن تعديل المادة 122 وحدها لا يكفي، بل يجب أن يكون جزءًا من تعديل شامل، فيما يدفع آخرون نحو تغيير القانون برمّته.
"تهميش" للمغتربين؟
بعيدًا عن تفاصيل الجلسة، يتقاطع معظم من يتابع الملف عند اعتبار أن جوهر النقاش حول اقتراع المغتربين قانوني وسياسي في آنٍ واحد. فوفق القانون النافذ، يُفترض أن يُخصَّص للمغتربين ستة مقاعد موزعة على القارات الست، ابتداءً من انتخابات 2026، بدلًا من اقتراعهم في دوائرهم الأصلية كما حصل في انتخابات 2018 و2022. إلا أن الكتل النيابية المطالِبة بإلغاء هذه المادة، ترى فيها تقليصًا متعمّدًا لدور غير المقيمين السياسي، وتهميشًا لوزنهم الانتخابي، إذ تحصر تمثيلهم في دائرة محدودة وغير متوازنة.
في المقابل، تتمسك قوى أخرى، أبرزها "التيار الوطني الحر" و"الثنائي الشيعي"، بالإبقاء على المادة، ولو تباينت الأسباب والدوافع، فـ"التيار" يعتبر أن "دائرة المغتربين" مكسب وطني يجب الدفاع عنه، بينما يرى "الثنائي" أن المساس بالبنية الحالية للقانون قد يخلّ بالتوازنات الطائفية، ويؤدي إلى اختلالات تمثيلية حادّة.لكنّهما يتقاطعان على توصيف الحماسة الراهنة لإلغاء المادة 122 بأنها مجرّد تعبير عن "شعبوية انتخابية"، لا عن رغبة حقيقية بالإصلاح.
وما بين هذين الموقفين، يُطرح سؤال جوهري عن مدى صدقية أي نقاش انتخابي يختزل الإصلاح بمسألة واحدة دون سواها، في وقت لا تزال غالبية البنود الإصلاحية الجوهرية، خارج التداول. وهذا ما تنبّه إليه الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات – "لادي"، التي دخلت بدورها على خط النقاش، داعيةً إلى إلغاء المواد 112 و121 و122 من القانون، لما تشكّله من انتقاص صريح لمبدأ المساواة بين اللبنانيين، من دون أن تستند إلى أي معايير عادلة أو شفافة في توزيع التمثيل أو احتساب الوزن الانتخابي.
الحسابات الانتخابية
وراء هذا الجدل القانوني والدستوري، تتوارى حسابات سياسية وانتخابية واضحة، باتت تطغى على أي مقاربة موضوعية، بحسب ما يقول المطّلعون. فكلّ المؤشرات تدلّ على أنّ القوى السياسية بدأت فعليًا معركتها نحو انتخابات 2026، مدفوعةً بهواجسها المسبقة، وبتجاربها السابقة، لا سيما في انتخابات 2022 التي أظهرت أن الصوت الاغترابي قادر على إحداث فارق فعلي، خصوصًا في الدوائر ذات الثقل المسيحي، حيث سُجِّل تراجعٌ واضحٌ لأحزاب تقليدية لطالما هيمنت على التمثيل، بل احتكرته بصورة أو بأخرى.
من هذا المنطلق، يخشى بعض الأطراف من تكرار سيناريو مشابه، يخلّ بالتوازنات التي لطالما استفادت منها الأحزاب التقليدية، ويفتح الباب أمام خروقات غير محسوبة، ولو أن تجربة بعض نواب "التغيير" لم ترقَ إلى مستوى التوقعات، في نظر شريحة واسعة من الناخبين. لذلك، فإن طرح "دائرة المغتربين" لا يُقرأ فقط كخيار تنظيمي أو تمثيلي، بل أيضًا كأداة للحدّ من التأثير السياسي لناخبين يُنظر إليهم على أنهم أكثر ميلًا للتغيير أو المعارضة.
لكن بعيدًا عن الحسابات الضيقة، يسلّط الجدل الحالي الضوء على إشكالية أوسع تتعلق بالموقع الفعلي للمغتربين في المعادلة الوطنية، لا كمجرد ناخبين موسميين، بل كركن أساسي في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبنان. فرغم الخطاب المتكرر حول "ربط لبنان المقيم بلبنان المغترب"، لا تزال العلاقة بين الجانبين محكومة بالمزاج السياسي، لا برؤية مؤسساتية مستدامة، ما يجعل من كل استحقاق انتخابي فرصة لإعادة فتح ملف الحقوق والتمثيل من زاوية نفعية.
في المحصلة، لا يبدو الخلاف حول اقتراع المغتربين نزاعًا تقنيًا أو تنظيميًا بحتًا، بل فصلًا جديدًا في معركة النفوذ السياسي نحو 2026، تتداخل فيه الهواجس التمثيلية مع الحسابات الانتخابية. وما لم تُقارب المسألة بمنطق العدالة الشاملة والمساواة بين اللبنانيين، في الداخل والخارج، سيبقى قانون الانتخاب أداة في يد المنظومة، لا مدخلًا إلى الإصلاح، بل إلى المزيد من التحصّن خلف الامتيازات