اخبار لبنان اخبار صيدا اعلانات منوعات عربي ودولي صور وفيديو
آخر الأخبار

بين زيارات الموفدين والتصعيد الإسرائيلي... كيف تترجم الوعود إلى وقائع؟

صيدا اون لاين

لا يكاد ​لبنان​ يودّع موفدًا دوليًا حتى يستقبل آخر، في مشهديةٍ يبدو أنّها تتكرّس أكثر فأكثر منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فبين زيارات الموفد الرئاسي الأميركي توم براك، وزميلته مورغان أورتاغوس، الثنائية تارةً والفردية تارةً أخرى، حطّ الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في بيروت مرّة أخرى، وهو الذي بات ضليعًا في الدهاليز اللبنانية، وإن تغيّرت عناوين زياراته ومضامينها على مرّ الأشهر، وربما السنوات.


لكنّ زيارة لودريان هذه المرة تكتسب زخمًا مضاعفًا، ليس فقط بسبب مؤشرات "التكامل" بين دور واشنطن، المتركّز على ملف سلاح "​حزب الله​" حصرًا، ودور باريس، الذي يستعدّ لمرحلة ما بعد "​حصرية السلاح​"، ولكن أيضًا لأنّها بحثت ربما للمرّة الأولى منذ فترة طويلة، في إجراءات "عملية"، على طريقة "ثلاثة بواحد": مؤتمر ل​دعم الجيش​، مؤتمر ل​إعادة الإعمار​ والتعافي، ومسار استثماري يحمل عنوان "بيروت 1".


لعلّ الرسالة الفرنسية في هذا المضمار واضحة، فلا إعمار بلا أمن، ولا أمن بلا مؤسسات قادرة، ولا ثقة بلا إصلاحات قابلة للقياس، وهو ما يتقاطع للمناسبة، مع الثوابت التي كرّستها باريس منذ فترة طويلة، حين أطلق لودريان نفسه شعاره الشهير: "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم". ولذلك، قد لا يكون التزامن بين زيارته وجلسة الحكومة التي تجاوزت لغة الوعود، من خلال إنجاز تعيينات تُعَدّ مطلبًا دوليًا ، خصوصًا في ما يتعلق بالهيئتين الناظمتين للكهرباء والاتصالات.

بهذه الخلفية، تبدو زيارة لودريان محاولة لتثبيت معادلة "إصلاحات مقابل دعم"، بمعنى أنّ باريس تؤمّن غطاءً سياسيًا وعمليًا لعقد مؤتمرين (للجيش والإعمار) وتواكب مسارًا استثماريًا، مقابل التزام حكومي بإجراءات تسدّ الثغرات المزمنة التي قوضت الثقة خلال السنوات الماضية. لكنّ "التشويش الإسرائيلي" كان حاضرًا على الخط أيضًا، من خلال رفع وتيرة الاستهدافات والخروقات، فهل يُفهَم من ذلك "فيتو" من إسرائيل على أيّ خطوات إيجابية إزاء لبنان؟!.
قبل التوقف عند بُعد التصعيد الإسرائيلي المتزامن مع زيارة الوسيط الفرنسي، لا بدّ من قراءة "متأنية" للزيارة وأهدافها، التي قد لا تصل إلى حدّ "إطلاق" خريطة طريق دولية لدعم لبنان، كما حاول البعض تصويرها، باعتبار أنّ المجتمع الدولي لن يكتفي بـ"مبادرات حسن النيّة"، بل ينتظر إجراءات ملموسة، سواء على مستوى حصرية السلاح، أو ​الإصلاحات الاقتصادية​ والمالية، لكنّها مع ذلك نجحت في منح الداخل زخمًا كان بأمسّ الحاجة إليه.

على المستوى الأمني، يمكن أن يُفهَم من زيارة لودريان وعناوينها أنّ باريس تضع عنوان "دعم الجيش" في واجهة المشهد، في ظلّ انطباع يترسّخ لدى الفرنسيين وغيرهم بأنّ تمكين الجيش ماليًا ولوجستيًا أضحى شرطًا تنفيذيًا لخطة "حصرية السلاح" وسحب المظاهر المسلحة جنوب الليطاني وصولًا إلى الحدود الدولية، وهي الخطة التي تَبنّاها مجلس الوزراء في جلساته الأخيرة كمسار سياسي ـ أمني لا رجعة عنه بحسب المقاربة الحكومية.

وتبدو الإشارة الفرنسية هنا مزدوجة: التمديد لـ"اليونيفيل" بتيسيرٍ فرنسي وفّر مظلّة، لكن ترجمة الخطة تحتاج أدوات على الأرض وبيئة حدودية أقلّ توترًا. لكنّ هذه المقاربة تُقابَل بسؤال أساسي: كيف يمكن تحويل الدعم إلى وقائع في ظلّ دينامية ميدانية تصعيدية، ولا سيما بعد ما شهده الجنوب والبقاع خلال الأيام القليلة الماضية من استهدافات دقيقة وتفجيرات وهجمات بمسيّرات، تكاد تكون الأعلى من حيث الوتيرة منذ اتفاق وقف إطلاق النار؟.
وإذا كان اللاعب الإسرائيلي يشوّش بوضوح على المسار اللبناني، وهو ما دفع المسؤولين اللبنانيين للطلب مرّة أخرى من فرنسا أن تمارس مع شركائها ضغطًا فعليًا على تل أبيب للالتزام بوقف الأعمال العدائية والانسحاب من النقاط التي احتلّتها بعد الحرب الأخيرة، فإنّ هناك أيضًا من يطرح علامات استفهام حول موقف "حزب الله"، الذي خرج أمينه العام الشيخ نعيم قاسم هذا الأسبوع بتصريحات بدا فيها كمن يتنصّل من مبدأ "حصرية السلاح".

ففي كلمته لمناسبة ذكرى المولد النبوي، دعا الشيخ قاسم الحكومة إلى نقاشٍ حول "استراتيجية الأمن الوطني" والعودة إلى "الأولويات الأربع": وقف العدوان على لبنان، انسحاب إسرائيل من الجنوب والمناطق المحتلة، الإفراج عن الأسرى، وبدء الإعمار. ويرى العارفون أنّ هذه المقاربة تربط أي مسار داخلي بتبدّل الشروط الحدودية والإقليمية، وتُبقي سلاح المقاومة خارج معادلة "الحصرية" بمعناها الأمني الضيق، أقلّه بانتظار انتهاء المواجهة الحالية مع إسرائيل.

ومن الأمن إلى الاقتصاد، وتحديدًا الإصلاح، حيث يرى العارفون أنّ تعيين الهيئات الناظمة للكهرباء والاتصالات يشكّل خطوة مفصلية بعد أعوام من التعطيل؛ فهي تفتح نافذة لإدارة قطاعين يلتهمان المال العام ويعيدان إنتاج العجز، وتوفّران إطارًا تنظيميًا لمشاريع الشراكة والاستثمار، من الشبكات الذكية إلى تحرير سوق الإنترنت جزئيًا عبر دخول "ستارلينك" تدريجيًا (مرحلة الشركات أولًا).

لكن هنا أيضًا، تفرض الوقائع الميدانية معادلة قاسية: كل غارة إضافية أو اغتيال أو تفجير منشأة مدنية، يخصم مباشرة من رصيد الثقة ومن قدرة الدولة على تنفيذ خطتها الأمنية، ويزيد كلفة التأمين والمخاطر على أي مشروع إعمار أو استثمار. فبالنسبة للمستثمرين والمانحين، يتقدّم الاستقرار على أي عناوين أخرى، ولذلك، يبدو ربط فرنسا بين مؤتمري الجيش والإعمار منطقيًا: لا جدوى من إعادة بناء ما يمكن أن يدمّره يومٌ واحدٌ من التصعيد خارج قواعد الاشتباك.

توصل هذه الصورة المركّبة إلى خلاصة عملية: نافذةٌ زمنية ضيّقة فُتحت مع زيارة لودريان، تُتيح تحويل التزامات لفظية إلى مواعيد مُلزِمة وتمويلٍ فعلي وخطوات تنفيذية، شريطة ثلاثة شروط متلازمة: أولًا، تثبيت انخفاضٍ ملموس في وتيرة الخروق على الحدود بضغطٍ دولي واضح؛ ثانيًا، تمكين الجيش سريعًا بما يحتاجه لتنفيذ الخطة على مراحل تتدرّج من الجنوب إلى العمق؛ وثالثًا، استدامة مسار الإصلاح التشريعي والتنظيمي.
عندها فقط يمكن تحويل ثلاثية "جيش ـ إعمار ـ استثمار" من عنوان إلى رافعة. أما إذا طغت وقائع النار على حسابات السياسة، وعاد الداخل إلى لغته الانقسامية حول "أيّ حصرية؟ ولمن؟ وبأيّ توقيت؟"، فسنكون أمام حلقةٍ جديدة من "الفرص الضائعة": مؤتمرات تؤجَّل، ووعود تتبخّر، وخطط تُستنزَف قبل أن تُجرَّب. لذلك، تبدو الأيام القليلة المقبلة اختبارًا لجدية الجميع: الحكومة في ترجمة قراراتها، باريس في تحويل اندفاعتها إلى مسارٍ مُموَّل ومؤطَّر، والأطراف المحلية في ضبط خطوط التماس السياسي والأمني بما يسمح بعبورٍ آمنٍ نحو إعادة إعمارٍ لا تتحوّل إلى استراحة محارب...

تم نسخ الرابط