اخبار لبنان اخبار صيدا اعلانات منوعات عربي ودولي صور وفيديو
آخر الأخبار

لبنان يخوض اختبار السيادة الهشة... "السلاح الفلسطيني" مساحة تعويض؟

صيدا اون لاين

على وقع استمرار السجالات حول ملف سلاح "حزب الله"، الذي أقرّت الحكومة خطة لسحبه، يُعتقَد أنّ تنفيذه سيبقى مجمّدًا ريثما تنضج الظروف المناسبة، يعود ملف السلاح الفلسطيني إلى الواجهة، بعد تسليم دفعة من الأسلحة الثقيلة من أحد أكثر المخيمات رمزية، كعين الحلوة، إلى ​الجيش اللبناني​، بعد خطوات مشابهة في مخيمات أخرى، وإن بقيت حتى الآن محدودة، في ظلّ عدم انخراط فصائل أساسية كحركة ​حماس​، في هذا المسار المحدّد.


في الظاهر، قد يبدو أن الأمر يدخل ضمن مسار تطبيقي لقرار الدولة بحصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية، كما ورد مرارًا في بيانات مجلس الوزراء منذ نهاية الحرب الإسرائيلية الأخيرة، لكن ثمّة من يرى أن هذا القرار لا يأتي من موقع قوة بقدر ما هو انعكاس لانسداد سياسي داخلي، يجد في معالجة "السلاح الفلسطيني" مساحة تعويض رمزية، أو ربما خطوة أولى بانتظار التقدّم على خط ملف سلاح "حزب الله".


لكن، بمعزل عن الربط الذي يراه كثيرون "إلزاميًا" بين الملفّين، يبقى الثابت وفق مختلف القراءات، أنّه لا يمكن التعاطي مع الحدث بوصفه فقط إجراء أمنيًا بحتًا. فخلف المشهد الميداني، ثمّة سؤال مركزي يُطرح مجددًا: هل باتت الدولة اللبنانية قادرة فعليًا على إعادة ترتيب علاقتها مع ​المخيمات الفلسطينية​، من مدخل ترميم السيادة المشروخة وتفكيك البنية المسلحة تدريجيًا من دون الانزلاق نحو صدام شامل؟.

منذ اتفاق القاهرة الذي وُقّع عام 1969 ثم أُلغي رسميًا في تسعينيات القرن الماضي، ظلّت العلاقة بين الدولة اللبنانية والمخيمات الفلسطينية محكومة بمعادلة ملتبسة، تحكمها التجاذبات الإقليمية والضرورات الأمنية المتبادلة، مع هامش واسع من الغموض المقصود. ومع أن حالات الاحتكاك الأمني بقيت محصورة داخل المخيمات، إلا أن المخيم الفلسطيني في لبنان بقي يُمثّل عقدة أمنية قائمة بحد ذاتها، بدليل الاشتباكات التي تتكرّر فيه بين الفينة والأخرى.

ولذلك، فإن مشهد تسليم السلاح اليوم لا يمكن فصله عن سياقين متوازيين: الأول داخلي، يتعلق بتوازن القوى السياسي في لبنان، وتحديدًا محاولات السلطة ترميم حضورها في لحظة وهن سياسي حاد، فضلاً عن النقاش المتصاعد حول سلاح "حزب الله"، والثاني إقليمي، يعبّر عن إعادة رسم أدوار الفصائل الفلسطينية في الشتات، ضمن إعادة تموضع إقليمي لما بعد حرب غزة، حيث لم يعد ممكنًا للفصائل أن تبقى على هامش الاستراتيجيات الأمنية للدول المضيفة.
في السياق اللبناني، يرى البعض أن الدولة قرّرت أن تبدأ من الحلقة الأضعف، أي من الفصائل المحسوبة على ​منظمة التحرير الفلسطينية​، والتي أبدت استعدادًا مبدئيًا للانخراط في المسار اللبناني الرسمي، منذ زيارة الرئيس الفلسطيني إلى لبنان قبل فترة، وإن تأجّل التنفيذ لعدّة أسابيع، وتطلب بعض التغييرات الهيكلية والتنظيمية، في ظل انقسام في الآراء ووجهات النظر، ومخاوف من ارتدادات على الواقع الفلسطيني في لبنان ككلّ.

هذا التقدير يحمل دلالات مزدوجة؛ فمن جهة، يُشكّل خطوة في اتجاه إعادة تنظيم الفضاء الأمني داخل المخيمات، التي تحوّلت في الفترة الأخيرة إلى أماكن خارجة عن سيطرة الدولة، بل إلى ملاذ آمن لكلّ المطلوبين والخارجين عن القانون، ومن جهة ثانية، يُفصح عن عجز بنيوي في مواجهة سلاح "حزب الله"، وهو ما يعطي خطوة نزع السلاح الفلسطيني بعدًا رمزيًا أكثر منه سياسيًا حاسمًا، بما يطرح علامات استفهام حول حدود القدرة اللبنانية على تطبيق منطق السيادة بشكل متوازن.
أما إقليميًا، فإن انخراط منظمة التحرير في هذا المسار ليس معزولًا عن الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها القيادة الفلسطينية في رام الله، سواء من الشارع الفلسطيني أو من العواصم الإقليمية، والتي ترى أن بقاء السلاح في المخيمات لم يعد يُجدي سياسيًا، بل يُستخدم ذريعة لإقصاء الفلسطينيين أو ضبطهم بالقوة، خصوصًا في دول تُعاني أصلًا من هشاشة أمنية. في هذا المعنى، فإن ما حصل في عين الحلوة هو أحد تجليات استحقاق فلسطيني داخلي يتمثّل بإعادة هيكلة الوجود الفلسطيني في الخارج، ضمن تصور جديد لدور المخيم، لا بوصفه منصة مقاومة مسلّحة كما كان في سبعينيات القرن الماضي، بل باعتباره مكوّنًا مدنيًا حقوقيًا يحتاج إلى إطار حماية لا يقوم على السلاح، بل على الاتفاقات الضامنة.

لكنّ هذه المقاربة، وإن كانت منطقية على المستوى النظري، تصطدم بوقائع ميدانية لا تزال تفرض نفسها في المخيمات. فحركتا حماس و​الجهاد الإسلامي​، اللتان لم تشاركا في تسليم أي من أسلحتهما، ما زالتا تنظران بعين الشكّ إلى النوايا اللبنانية، وتعتبران أن ما يجري قد يكون محاولة لنزع أنياب الفصائل الإسلامية تحديدًا، في لحظة إقليمية تُقلّص من قدرتها على الحركة. كما أن غياب أي ضمانات سياسية أو قانونية واضحة، سواء للفصائل أو لسكان المخيمات، يجعل من الخطوة اللبنانية أحادية الطابع، محفوفة بمخاطر عكسية، خصوصًا إذا ما أدّت إلى فراغ أمني قد يُملأ مجددًا بطريقة فوضوية.

وما يعزز هذا القلق هو أن الدولة اللبنانية لا تزال تتعامل مع ملف الوجود الفلسطيني من منظور أمني صرف، من دون أي رؤية إصلاحية حقيقية تُقارب قضايا الحقوق المدنية والاجتماعية. فحتى اللحظة، لا توجد مؤشرات على نيّة لبنانية جدية لمعالجة ملف المطلوبين داخل المخيمات، أو الاعتراف بالحقوق المدنية للاجئين، أو حتى تقديم بدائل أمنية مستدامة تعوّض انسحاب الفصائل المسلحة من مواقعها. من هنا، لا يمكن عزل الموقف الفلسطيني المتحفظ عن منطق الحذر المشروع.
في المحصلة، لا يمكن النظر إلى ما جرى في عين الحلوة كبداية تسوية شاملة، بل هو أقرب إلى اختبار أولي لقدرة الدولة على إدارة مرحلة انتقالية دقيقة، تفترض شراكة واقعية مع القوى الفلسطينية، لا مقاربة استعلائية أو إملائية. فنجاح هذا المسار لا يُقاس فقط بعدد الأسلحة المُسلَّمة، بل بمدى قدرة السلطة اللبنانية على توفير بيئة سياسية وقانونية تسمح بانتقال المخيمات من الفضاء المسلح إلى الفضاء المدني، من دون الشعور بالخسارة أو الاستهداف.

ربما لا تزال الطريق طويلة وشائكة، وربما لا يكون ما جرى سوى إجراء موضعي سرعان ما يتبدّد في ظل أي انتكاسة أمنية أو ضغط سياسي، لكن المؤكد أن العين على عين الحلوة لن تُرفع قريبًا، لأنه تحوّل مرّة أخرى إلى مرآة عاكسة لحالة لبنان المتأرجحة بين طموح السيادة ومأزق الدولة.

تم نسخ الرابط