الـ1701 انتهى؟... بديله أسوأ من 17 أيار… لبنان على عتبة الانفجار؟

الكل تقريباً يتصرّف على أساس أنّ القرار 1701 الصادر في آب 2006 قد انتهى، وأنّ اتفاق 27 تشرين الثاني 2024، الذي أنهى عدوان أيلول وسُمّي لبنانياً "اتفاق الإجراءات التنفيذية الخاصة بالقرار"، ليس سوى اتفاقٍ ظرفيّ مؤقت لن يطول به الأمر حتى يواجه مصير سلفه. ويُرجَّح أن ما يدفع نحو هذا الاعتقاد هو أنّ القرار 1701، الذي نصّ على نشر الجيش اللبناني في الجنوب وحدّد مهلةً لتفويض "اليونيفيل"، بات قريباً من تحقيق شروطه كاملة، إذ تمّ نشر الجيش وجرى تحديد مهلة نهاية لمغادرة القوات الدولية مطلع عام 2027.
مع ذلك، لا يزال البعض هنا يصرّون على التشديد و الإشادة بالقرار 1701، ليس لأنه "مقبول" إنما لسببٍ يرتبط بمنطقيّة بنوده مقارنةً بما هو مقترح مستقبلاً. في المقابل، هناك فئة غير قليلة من الساسة تُقرّ ضمناً بأنّ اتفاقاً جديداً آتٍ سيخلف الاتفاقين السابقين، وأنّ الولايات المتحدة الأميركية تدفع في هذا الاتجاه وتعمل على توفير ظروفه.
من هذا المنطلق، يصبح مفهوماً لماذا يُسارع رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى الدعوة لبدء مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل برعاية واشنطن، على غرار مفاوضات ترسيم الحدود البحرية التي رعاها عاموس هوكشتين سابقاً، علماً أنّ المطلب الأميركي الحالي يتجاوز تلك القضية بدرجات. ومن غير الصعب استنتاج أنّ اندفاعة الرئيس تأتي في إطار محاولةٍ منه لتقليص مساحة الشروط المفروضة على لبنان أو للحؤول دون فرض شروطٍ إسرائيليةٍ أكثر قساوة.
الجميع في لبنان يعلم أنّ واشنطن تطلب بشكلٍ صريح انطلاق مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل. وقد أُبلِغت رئاسة الجمهورية بذلك أكثر من مرة، وهي باتت على بيّنةٍ من الأمر.
لكن الواقع اللبناني المأزوم سلبي إلى درجة أن إقتراحاً من هذا النوع قد يفجّر البلد. لذلك عملت الرئاسة، بالإنابة عن الجميع، على إجراء "هندسة" على المقترح، قامت على فكرة البدء بمسار من المفاوضات غير المباشرة، ما يسمح بتهيئة الداخل اللبناني لهذا المسار. ويمكن القول أن ذلك يُعد نوعاً من "الإغراءات" أو أشبه بمتنفّس. ويبقى أن بلوغ "المرحلة الثانية" ليس مضموناً، بل أن ما يجري هو أقرب إلى رهان بخس على طاولة قمار فيها أجود أنواع الدولارات!
في الواقع، المأزق الحقيقي الذي تواجهه الرئاسات الثلاث هو أنّ هذا المسار، في حال تطبيقه كما تطلبه الولايات المتحدة، قد يفتح الباب أمام فوضى داخلية، باعتبار أنّ هناك قوى فاعلة، وعلى رأسها حزب الله، تمتلك حقّ "الفيتو" وقادرة على العرقلة، بل ودفع الأمور نحو مواجهة سياسية وربما ميدانية. والمواجهة اليوم، في نظر كثيرين، ستكون باهظة في ظلّ اليد الإسرائيلية الطليقة والغطاء الأميركي المفتوح، ومع هشاشة الوضع الداخلي، قد يُصاب لبنان بضررٍ غير مسبوق.
يُستدلّ على ذلك من طبيعة النقاش الدائر حول تشكيل الوفد اللبناني. إذ يجري التداول حالياً بفكرة تطوير آلية التفاوض التي اعتُمدت خلال مفاوضات الترسيم البحري، بحيث يتحوّل الوفد من عسكريّ مدعوم تقنياً إلى وفدٍ عسكري – تقني – دبلوماسي – حقوقي، عبر إشراك ممثلين عن وزارتي الخارجية والدفاع وربما الأشغال، إلى جانب خبراء في القانون الدولي وترسيم الحدود، يتم انتدابهم من الرئاسة الأولى بالتعاون مع المرجعيات المعنية. كما يُقترح إشراك شخصيات سياسية تعمل كمستشارين لمراجع رفيعة.
مثل هذا التطوير في الشكل قد تقبله واشنطن على قاعدة "تحضير الظروف" داخلياً، لكنّها ستشترط أن يتحوّل لاحقاً إلى مفاوضاتٍ مباشرة تتناول ملفاتٍ حساسة مثل الانسحاب الإسرائيلي من المواقع المحتلة، ووقف الاعتداءات والاغتيالات، وتحرير الأسرى. وهي ملفات لا بدّ من وجود طرفٍ رسمي لبناني يوقّع عليها، والأرجح أن تصرّ واشنطن على أن يوقّعها رئيس الجمهورية باعتباره، وفق الدستور، صاحب الصلاحية في إبرام المعاهدات، ما يمنح أيّ اتفاقٍ قيمةً سياسية وقانونية.
المطّلعون على خفايا الأمور يدركون أنّ واشنطن ومعها إسرائيل تبحثان عن اتفاقياتٍ حقيقية مع دول ما تزال تقع ضمن دائرة النزاع، على قاعدة اتفاقياتٍ محصنة "من دولة إلى دولة"، وليس اتفاقياتٍ غامضة أو بلا توقيعٍ رسمي كما حصل في اتفاق 27 تشرين الثاني الماضي، الذي لم يُرفق بأيّ توقيعٍ رئاسي. ومن ينظر إلى النموذج السوري، يفهم تماماً ما تسعى إليه إسرائيل وما تريده واشنطن.
إلى جانب الضغوط الأميركية والإسرائيلية، يعزّز من الاندفاعة نحو المفاوضات المناخ السياسي الأميركي الراهن، إذ تشير المعلومات إلى أنّ إحدى مهام السفير الأميركي الجديد في بيروت، ميشال عيسى، هي استبدال اتفاق وقف إطلاق النار الحالي ورعاية إبرام اتفاقيةٍ مختلفة بين لبنان وإسرائيل. لكن، بخلاف ما يتم التداول به، ستكون مهمة عيسى إجرائية بمعاونة مورغان أورتاغوس، فيما يبقى المحرّك الفعلي في واشنطن هو وزارة الخارجية الأميركية، وتحديداً مدير الملف المقترح جون ريبرون، الذي يناقش الكونغرس الأميركي اليوم تعيينه مساعداً لشؤون الشرق الأدنى في الوزارة. أي أنّ القرار في الملف اللبناني سيعود إلى الخارجية الأميركية بصفتها الجهة المخوّلة قانوناً بتكريس الاتفاقيات.
بعيداً عن السيناريو المطروح، يبقى من الضروري رصد موقف حزب الله، باعتباره قوةً أساسية في المعادلة اللبنانية.
فالحزب يعلن بوضوح رفضه لفكرة المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، وهو موقف عبّر عنه قادة نافذون فيه مراراً. بل يعتبر الحزب أنّ مجرّد الدخول في مفاوضاتٍ مباشرة يعني انخراط لبنان في مسار "اتفاقيات إبراهام"، أي تحوّله إلى دولةٍ مطبّعة. وبالتالي، سيعتبر الحزب أن السلطة تتجاوز إرادة غالبية اللبنانيين، وسيتصرّف على هذا الأساس كقوة معارضةٍ قادرة على المشاغبة، مدعوماً من حليفه حركة أمل وآخرين، رفضاً لأيّ توجه نحو "السلام" فيما دماء الجنوبيين لم تجف بعد، ولأنّ الثمن سيكون طرح سلاح المقاومة على الطاولة.
بين خيار المفاوضات وهاجس الحرب خيطٌ رفيع، لكن المؤكّد أنّ أيّاً من المسارين لن يكون بلا ثمن