إختر من الأقسام
آخر الأخبار
معروف سعد… مسيرة تضحيات ونضال توّجت بالشهادة
معروف سعد… مسيرة تضحيات ونضال توّجت بالشهادة
المصدر : يوسف كليب | الجنوب
تاريخ النشر : الخميس ١٨ أذار ٢٠٢٤

قلما عرفت ساحة العمل العام رجلاً جمع في شخصه صفة المقاوم للاحتلال وصفة القائد السياسي الشعبي والمناضل المطلبي والاجتماعي في آن معاً، كما كان عليه الشهيد معروف سعد. فقد تفتحت بواكير الوعي السياسي لمعروف سعد يوم كان شاباً مدرِّساً في المقاصد الإسلامية في صيدا. في تلك الفترة، كان الانتداب البريطاني على فلسطين يسعى إلى ترجمة وعد بلفور عام 1917، الذي قضى بإعطاء فلسطين للحركة الصهيونية. آنذاك بدأت قوات الاحتلال الإنكليزية لفلسطين تفسح في المجال، عبر أساليب مختلفة من الترغيب والترهيب، لتمكين العصابات الصهيونية من “الشتيرن” و”الهاغانا” من السيطرة تدريجياً على الأراضي الفلسطينية بمدنها وقراها والتضييق على الحركة الوطنية الفلسطينية التي كانت تناضل لإخراج الانتداب من فلسطين بشتى الوسائل الممكنة. لقد شارك معروف سعد بداية في أنشطة ذات طابع شبه عسكري في الجنوب اللبناني عن طريق قطع الطرق لعرقلة حركة قوافل القوات البريطانية في نقل المؤن والأعتدة إلى داخل فلسطين. غير أن النشاط العسكري الأبرز الذي شارك فيه كان في التحاقه مع أبناء مدينة صيدا بالعمل الفدائي الأول في فلسطين، في ما كان يعرف آنذاك بهبة 1936، إلى جانب قادة كبار كمفتي الديار المقدسة الحاج أمين الحسيني والقائد فوزي القاوقجي والشيخ عزالدين القسام وغيرهم. وشكّلت تلك الهبة الفلسطينية أولى ملامح الوعي الجمعي الفلسطيني، بعد هبة البراق عام 1919، وبدرجة أقل الوعي العربي، إلى مخاطر المشروع البريطاني الرامي إلى منح فلسطين “أرضاً بدون شعب إلى شعب بدون أرض” على حساب الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه التاريخية في وطنه من البحر إلى النهر.

غير أن نضال معروف سعد لم ينته بتوقف هبة الـ1936 التي استمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، بل أنه واصل نضاله ضد الاستعمار الفرنسي في لبنان حيث كان بوعيه المبكر، لا يرى في الاستعمار الأجنبي لمنطقتنا العربية إلا احتلالا كامل الأوصاف والشروط الهدف الحقيقي منه نهب ثروات المنطقة في لعبة تقاسم نفوذ دولية وتعطيل أي إمكانية لإمساك الشعب العربي بيده، مقدراته القومية وإدارة شؤونه اعتمادا على نخبه الفكرية وقادة الرأي فيه.

ولعل الملمح الأبرز من ملامح نضاله المتواصل اقتحام معروف سعد قشلة صيدا التي كانت مركزا للقوات الفرنسية والعسكر السنغالي مع إخوانه ورفاقه لتحرير عدد من أبناء المدينة كانت قد اعتقلتهم تعسفاً لرفضهم ممارسات جنود الاستعمار، وقتذاك أصيب معروف سعد بيده وكان جرحه الأول في مسيرة النضال التي خطاها حتى لحظة استشهاده عام 1975.

في العام 1948 انخرط معروف سعد في النضال مجدداً ضد الاحتلال الصهيوني يوم قاد مجموعات مسلحة من أبناء صيدا والجنوب حيث كانت قبلتهم بلدة المالكية التي خاضوا فيها معارك ضارية مع العصابات الصهيونية المكتملة التسليح والعتاد، غير أن التآمر العربي بتشكيل جيش الإنقاذ للمشاركة في معركة فلسطين قيد حركة الثوار العرب الذي هبوا لنصرة الشعب الفلسطيني، فكانت هزيمة الجيش المذكور مؤداها ضياع فلسطين وتهجير شعبها في أربع رياح الأرض، وهو ما ولد لدى معروف سعد يأسا من الرهان على الجيوش النظامية العربية وقدرتها على إنجاز أي انتصار حقيقي على الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة، وبالتالي يقينا موضوعيا بأن استعادة فلسطين تحتاج إلى عمل عربي ثوري منظم لم تنضج شروطه الموضوعية بعد.


غير أن ما هدف إليه معروف سعد لم يطل انتظاره مع اندلاع حركة الضباط الأحرار في مصر العربية عام 1952 بقيادة المارد العربي جمال عبد الناصر، التي وجد فيها معروف سعد البديل الثوري الحقيقي الذي يمكن الرهان عليه لانجاز الوحدة العربية وبالتالي توفير الظروف الموضوعية لتحشيد مقدرات الأمة وزجها في معركة كنس الاستعمار وإنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

لقد حققت الثورة الناصرية في مصر في زمن قياسي منجزات ثورية كثيرة بدءاً من التأميم والإصلاح الزراعي والسد العالي وصولاً إلى مواجهة العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الصهيوني على مصر عام 1956 التي مثلت هزيمة مدوية لهذا الثالوث العدواني ودرساً في قدرة الشعب العربي على الانتصار متى توفرت شروطه الموضوعية والذاتية.

لقد أثارت هزيمة قوى العدوان في 1956 انتباه القوى الامبريالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية التي بدأت بحشد قوى الردة العربية في مواجهة حلم الوحدة الذي جسده عبد الناصر. فكان أن اندلعت في لبنان ثورة عام 1958 في مواجهة حكم كميل شمعون الذي ارتبط بمشروع إيزنهور وحلف بغداد، وقد شارك معروف سعد بتلك الثورة المباركة مؤسساً المقاومة الشعبية التي التحق فيها مناضلون من صيدا والجنوب، وقد كان معروف سعد قطباً رئيسياً في الثورة إلى جانب القائد الشهيد كمال جنبلاط والأحزاب الوطنية من يسارية وقومية.

مع انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح في 1/1/1965، تواصل معروف سعد مع القائد الفلسطيني ياسر عرفات وإخوانه في القيادة الفلسطينية أبو جهاد وأبو اياد وأبو مازن من أجل تنسيق العمل على الساحة اللبنانية وتوفير الدعم لأبناء المخيمات الفلسطينية ومن ثم مع كل من الدكتور جورج حبش ونايف حواتمة وغيرهم أواخر الستينيات لتنسيق النضال الوطني اللبناني الفلسطيني المشترك في مواجهة اليمين اللبناني الذي زج آنذاك بالجيش اللبناني في معركة تأديب المخيمات ومنع التحاقها بالعمل الثوري الذي عبرت عنه الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بعد معارك أيلول الأسود في الأردن.

لقد استطاع اليمين اللبناني الممسك بالسلطة وبالتالي بالجيش من تضييق الحصار على الحركة الوطنية اللبنانية التي انحازت بأحزابها وقواها الحية المختلفة لقضية الشعب الفلسطيني وحقه بالنضال والكفاح المسلح لاستعادة أرضه المغتصبة لا سيما في الفترة التي تلت اتفاق القاهرة عام 1969 الذي رعاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقد رافق تلك الفترة افتعال السلطة لمجموعة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهها الشعب اللبناني بقيادة قواه الوطنية الحية وأطرها النقابية بتحركات واحتجاجات أبرزها تحركات عمال معمل غندور وتظاهرات مزارعي التبغ عامي 1972-1973 واجهتها السلطة اللبنانية بإنزال الجيش والقوى الأمنية وقد سقط عدد من الشهداء آنذاك أبرزهم نعمة درويش وحسن الحايك، وقد كان لصيدا نصيب وافر من هذه الاحتحاجات بقيادة معروف سعد وعدد من قادة العمل الوطني والنقابي وفي مقدمهم القائد النقابي حسيب عبد الجواد.

مع تأسيس كميل شمعون لشركة بروتيين التي هدفت إلى احتكار حركة الصيد البحري قبالة الشواطئ اللبنانية كانت صيدا، على جري عادتها، سباقة إلى إطلاق موجة من التحركات والاحتجاجات لصيادي الأسماك، فبموجب نص إنشاء شركة بروتيين يمنع صيادو الأسماك من الإبحار بمراكبهم وممارسة عملهم في الصيد لتأمين قوت عيالهم. لقد انطلقت تظاهرات ضخمة في صيدا بتاريخ 26/2/1975 بقيادة معروف سعد وقد انضمت إليها شرائح شعبية واسعة وقوى حزبية ونقابية، وبوصول التظاهرات إلى ميدان جمال عبد الناصر أطلق الجيش، المؤتمر آنذاك بأوامر اليمين اللبناني، رصاصات مباشرة أصابت معروف سعد ليسقط مضرجاً بدمه فتندلع بعدها مواجهات مسلحة شكلت المقدمات الموضوعية لاندلاع الحرب الأهلية في الثالث عشر من نيسان عام 1975.

لقد كان معروف سعد يدرك أهمية التنظيم في العمل السياسي لذلك، وقبل استشهاده بأشهر قليلة، عقد سلسلة لقاءات واجتماعات سياسية وتنظيمية مكثفة مع عدد من إخوانه ورفاقه ممّن خاضوا معاً النضال بمختلف أشكاله العسكرية والمطلبية والنقابية والاجتماعية، والتي توجت بمؤتمر تنظيمي عام عقد في أوتيل طانيوس في صيدا أسس بموجبه التنظيم الشعبي الناصري مستلهما مبادئ الثورة الناصرية وأفكارها التي جرى التعبير عنها خير تعبير في ميثاقه، كما وأفرد حيزاً هاماً للقضية الفلسطينية ولثورتها المباركة ووجوب تحشيد كل الطاقات العربية في سبيل معركة استعادة فلسطين، وهو ما حمله بأمانة واقتدار رمز المقاومة الوطنية اللبنانية مصطفى معروف سعد الذي تسلم قيادة التنظيم الوليد بعيد استشهاد والده، وترجمه انحيازاً حاسماً لقضيتها وثورتها، لا سيما يوم جرى استهداف المخيمات الفلسطينية، مطلقا شعاره الشهير ” سنحمي الثورة الفلسطينية بأشفار عيوننا”، تلك العيون التي نال من قدرتها على النظر العدو الصهيوني يوم استهدفه بسيارة مفخخة في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1985، لكنه بالقطع لم ينل من بصيرته وعزيمته على الانتصار لفلسطين وقضيتها حتى آخر يوم من حياته عام 2002، فاستحق يوم رحيله عن جدارة لقب شهيد لبنان وفلسطين في آن معا.

معروف سعد حكاية من النضال لا تنتهي بل ستبقى راسخة في وجدان الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب جيلاً بعد جيل، وها هو الدكتور أسامة سعد حامل ثقل الأمانتين، أمانة معروف وأمانة مصطفى، يتابع السير على مبادئهما ونضالهما ومعه إخوانه في التنظيم الشعبي الناصري، وهو ما جرى ترجمته انتفاضا ضد طبقة سياسية رثة مارست السلب والنهب المنظم للمال العام ولمقدرات الشعب اللبناني على مدار عقود ما أسهم في إفقار اللبنانيين وإلحاق الوطن في مصاف الدول الفاشلة المارقة.

معروف سعد باق في قلوب الوطنيين الأحرار، وستبقى مبادؤه وتضحياته ملهمة لأجيال من المناضلين حتى تحقيق الدولة الوطنية العادلة، دولة القانون، دولة المواطنة المتساوية العادلة، الدولة المقاومة غير المفرطة بالحقوق الوطنية في البر والبحر، دولة الرعاية الحامية لمصالح اللبنانيين وحقوقهم في العمل والحياة والعيش الحر الكريم.


عودة الى الصفحة الرئيسية